[esi views ttl="1"]
آراءأرشيف الرأيالفكر والرأي

طريق مسدود في اليمن يقود إلى.. «السودنة»؟

لا يبدو أن ميزان القوى في اليمن اختل لمصلحة طرف دون آخر. فإذا كانت الكفة راجحة للنظام في المؤسسة العسكرية، فإن الكفة في المؤسسة «القبلية» تميل لمصلحة خصومه. من هنا انسداد الأفق أمام أي حل سلمي. ومن هنا تعثر تنفيذ المبادرة الخليجية. وكان الرئيس علي عبدالله صالح واضحاً في تحديد شروط خروجه عندما ربط، في تصريحه الأخير ل «واشنطن بوست»، هذا الخروج برحيل خصومه.

فهؤلاء كانوا إلى الأمس القريب من عصب النظام وأحد مكوناته. وإذا كان مطلب الحراك تغيير النظام، فلا بد من أن يشمل التغيير، في نظر رأس هذا النظام، كل الوجوه التي تحملت مسؤولية إدارة البلاد في الأعوام الـ33 الماضية! سواء اللواء علي محسن الأحمر قائد الفرقة الأولى مدرع، أو يعني هذا بوضوح أن الصراع بين أركان النظام بات الصفة الغالبة على الحراك في اليمن.

كانت المعارك بين قوات اللواء الأحمر ومقاتلي صادق الأحمر من جهة والحرس الجمهوري من جهة ثانية في شهري أيار (مايو) وحزيران (يونيو) الماضيين والتي تجددت في أكثر من موقع وانتهت بمحاولة اغتيال الرئيس في المجمع الرئاسي قبل أربعة أشهر، خير دليل إلى أن التغيير في هذا البلد قد لا يسير في الوجهة التي يرنو إليها الشباب في ساحات الاعتصام والتظاهر. ولا يطمئن أيضاً كل الذين التحقوا بهم، من قوى جنوبية وشمالية انضوت تحت لواء «اللقاء المشترك».

في ظل ميزان القوى الحالي في صنعاء يبدو أن الطريق مسدود، ولا أمل قريباً بالخروج من نفق الصراع بين الطرفين. لكن ورقة المناهضين للسلطة قد تبدو في المدى البعيد هي الورقة الرابحة ما دام أن فريق الرئيس هو المطالب بالرحيل إقليمياً ودولياً، وما دام خصومه - شركاء الأمس - وقفوا منذ البداية مع الشباب ونقلوا شراكتهم إلى «اللقاء المشترك» الأوسع تمثيلاً على مستوى البلاد. لكن هذا «الستاتوكو» لا يشجع المنضوين تحت لواء الحراك الذين باتوا يشعرون مع مرور الوقت بأنهم مهمشون في هذا الصراع الثنائي على السلطة.

فلا جدال في أن الحوثيين في صعدة الذين خاضوا ست جولات من الحرب ضد النظام، لم ينسوا بعد أنهم كانوا يواجهون طرفي الصراع الحالي على السلطة. ولا شك في أنهم يشعرون اليوم بأنهم باتوا أقوى ما دام الخصم انقسم على نفسه، انقساماً لن يلتحم بعد الدم الذي أريق في دار صادق الأحمر والمجمع الرئاسي. وباتت لهم اليوم شروطهم في أي سلطة مقبلة، أي «حصتهم» من أي نظام مقبل. وهم أكثر قدرة مما كانوا عليه في سنوات «الجولات» قبل الحراك، على فرض هذه الشروط. فكلما نخر الضعف جسم السلطة المركزية قوي عود الأطراف.

لكن الأخطر في هذا الجمود هو شعور أهل الجنوب بأن الصراع الحالي يبعدهم من موقع القرار. زيّن الحراك لفريق المتشددين منهم أن خيرات التغيير في ظل الوحدة ستبدل في الأوضاع السابقة، فلا تهميش ولا تغييب ولا تسلط ولا تمييز... بعض الجنوب الذي كان إلى عشية الحراك يطالب بصوت عالٍ لم يخل من «طلقات» متفرقة، باستقلال الجنوب المهمش، سيفيد من التهميش الحالي ليعزز موقعه المطالب بالخروج من الوحدة. فإذا كان فريق من النظام يستلهم ما يجرى في سورية وفي ليبيا، فإن ثمة في الجنوب من يستلهم تجربة السودان التي انتهت بالبلاد سودانين. وهم الآن في ظل «صراع الأهل» في صنعاء أكثر قدرة على التحرك في هذا الاتجاه. وربما أكثر قدرة على مواجهة القوى التي وقفت دون تحقيق مأربهم في حرب الانفصال عام 1994، وأكثر قدرة على إعادة اقناع بعض القوى التي ساندتهم يومها بجدوى «السودنة» ومنافعها...

والأخطر من شعور الجنوبيين والشماليين بالعزلة عما يدور في صنعاء، شعورهم أيضاً بأن لا القوى الإقليمية، خصوصاً دول مجلس التعاون، ولا القوى الدولية خصوصاً الولايات المتحدة، نجحت حتى الآن في شق الطريق أمام التغيير المطلوب. بل ثمة منهم من يعتقد بأن كل هذه القوى لم تمارس ما يكفي من ضغوط لإقناع الرئيس علي عبدالله صالح بالتنحي، لاعتبارات خاصة بكل طرف. يعرفون أن واشنطن كانت ولا تزال تدعم المبادرة الخليجية التي تنظم انتقال السلطة على نحو سلمي وسلس، لخوفها من تأثير التغيير في موقف صنعاء من التعاون في «الحرب على الإرهاب»، ولخشيتها من وصول المتشددين إلى السلطة.

مر وقت طويل قبل أن تستعجل واشنطن الرئيس صالح التنحي وترك السلطة. لم تكن تقنعها اتهامات المعارضة النظام بأنه يقف وراء تعزيز مواقع المتشددين والتهويل من خطرهم على المصالح الخليجية والغربية. وإذا كان فريق الرئيس صالح يعتقد بأنه سيستثمر مقتل أنور العولقي لتعزيز أوراقه مجدداً، فإن واشنطن حاولت قطع الطريق سريعاً هذه المرة. اعترفت بأن «التعاون مع الحكومة اليمنية كان مهماً في قتل العولقي». لكنها نبهت إلى أن «هذا أمر منفصل عن الاعتقاد بأنه يجب على صالح ان يبدأ على الفور عملية انتقال إلى الديموقراطية وفق المبادرة الخليجية»... فهل تكون صادقة علماً أنها لم تتخذ أي خطوات توحي بالضغط على الرئيس صالح لاستعجال تنحيه؟

لم تعد ورقة الإسلاميين المتشددين تنفع النظام كما كانت الحال سابقاً. لم يعد ينفعه التهويل ببعض مكونات المعارضة وعلى رأسها «الإصلاح» الذي يضم بعض المطلوبين في «لوائح الإرهاب». يعرف أهل الحراك أن التجمع يضم إلى الإسلاميين كثيراً من رجال الأعمال ووجهاء القبائل والمعتدلين. وأن الراحل عبدالله بن حسين الأحمر كان الرجل الذي يدير الدفة في الاتجاه الذي يريد إلى حد كبير. كان يضبط إيقاع الإسلاميين في «الاصلاح»، ويبعدهم من واجهة الأحداث عندما تقتضي المصلحة. فمثلما كان الرئيس يتلاعب بقوى المعارضة لتأكيد قوته في وجه آل الأحمر، كان هؤلاء يلوحون بورقة «الإخوان» وباقي القوى الإسلامية المنضوية تحت لواء التجمع. لكن العامل القبلي يظل أقوى رابطة في تحديد وجهة التجمع الذي يعرف أركانه التقليديون صعوبة الاستئثار بالحكم من دون دعم اقليمي واضح من الجيران، ومن دون دعم غربي أيضاً لبلد يرزح تحت خط الفقر... وتتهدد وحدته طموحات متشددين هنا وهناك في الشمال والجنوب.

إذا كانت الضغوط الخارجية قاصرة حتى الآن عن تحريك الأوضاع في اليمن نحو التغيير، وإذا كانت الساحات المتقابلة ترسخ ميزان القوى القائم على الأرض، فهل يستسلم شباب ساحة التغيير والقوى المعتدلة التي لا يروق لها الاصطفاف في هذا المعسكر أو ذاك كما لا يروق لها أن تنبعث أصوات الانفصال مجدداً؟ لعل أقصر السبل للخروج من النفق هو شق طريق بديل. أي قيام قوة ثالثة تخرج الحراك من دائرة الصراع بين الطامحين إلى وراثة السلطة وليس تغيير النظام. وأي توانٍ عن تشكيل مثل هذه القوة سيعزز اليأس في أوساط الشباب، والأخطر من ذلك سيعزز صفوف الذين لا يجدون في وحدة البلاد أي جاذب أو مصلحة... أليس هذا ما قيل وسُوّق له طويلاً قبل ولادة دولة جنوب السودان؟ لا يعقل أن يختصر الصراع بين الحرس الجمهوري والفرقة الأولى المشهد السياسي برمته. ولا يمكن أن يظل اليمن محصوراً بين خطي هذه المواجهة الثنائية. وحتى وإن انتصر طرف على آخر في ظل هذه المعادلة، فإن قضية التغيير ستظل عالقة... هل تفرز الساحات طرفاً ثالثاً قادراً على قلب المعادلة في الداخل والخارج؟

زر الذهاب إلى الأعلى