بمرسوم خادم الحرمين عبدالله بن عبدالعزيز القاضي بتعيينه ولياً للعهد ومبايعة السعوديين له في اليوم التالي للمرسوم، يكون الأمير نائف اقترب خطوة باتجاه العرش، وإن كان من الناحية العملية هو من يدير الدولة السعودية، منذ مرض أخيه الراحل الأمير سلطان رحمه الله، بسبب اضطلاعه بأغلب مهام رئيس مجلس الوزراء..
وبدقة أكثر يبدو أن المملكة العربية السعودية دخلت عملياً عهد نائف بن عبدالعزيز، فخادم الحرمين أبومتعب لايزال في صحة جيدة، لكن عامل الحيوية هو ما يعزز دور ولي العهد ويجعله قطب السياسة السعودية في هذه المرحلة الفاصلة من تاريخ المنطقة..
ولاشك أن صعود الأمير نايف إلى موقع الرجل الثاني، ودوائر التحرك المتاحة أمامه، سيضفي على السياسة السعودية تجاه الداخل والخارج طابعاً لا نقول مغايراً، ولكن مميزاً بتميز الرجل والمرحلة..
ونظراً لتأثر الواقع الإقليمي عموماً، واليمني خصوصاً، بتوجهات الإدارة السعودية فيمكننا تالياً استعراض أهم الملفات على طاولة ولي "العهد الجديد".
الداخل السعودي
لعل الأمير نايف بسبب شغله منصب وزير الداخلية منذ 1975، هو أكثر الأمراء طيلة العقود السابقة، احتكاكاً مع الواقع السعودي بكافة تفاصيله وتحدياته.. ولا شك أن التحديات الداخلية تظل أهون من تحديات الخارج في المرحلة الراهنة.. ولعل الأمير نائف مطالب بنقلات ملموسة في الجوانب التي تمس بشكل مباشر حياة المواطن السعودي وأشواقه وطموحاته، وأن يحذو حذو أشقائه الملوك الذين صاحب صعود كل منهم إلى العرش ميزات جديدة للمواطنين..
وفيما يتعلق بملف مكافحة الإرهاب فإن الأمير نايف بحكم موقعه طيلة العقود الماضية هو سلطان هذا الملف وقد أحدث فيه نجاحات كبيرة تعدت إطار الداخل إلى الإطار الدولي، وقد أدى هذال النجاح إلى محاولة تنظيم القاعدة استهدافه، ونجله محمد، أكثر من مرة، وبالتالي فإن موقعه الجديد يعزز من قدرته في هذا الملف، حيث سيمكنه من تطويع كافة آليات الدولة بشكل أسلس، لتصب بشكل أساسي في اجتثاث هذا الخطر الذي لم يعد يتصدر قائمة المخاطر..
ومتوقع في عهد نائف أن يشهد القرار السعودي قوة وانسجاماً أكثر من العهود السابقة، ذلك أن مستوى قوة نائف الحالية بمن يليه ويساعده في الحكم، أكثر من قوة إخوانه السابقين الذين تولوا العرش..
تنموياً غير بعيدٍ أن يشرع نائف في الاستفادة من قوى العمل المحلية والعربية من أجل الانتقال بالصناعة الوطنية من مستواها التحويلي إلى الصناعات المتوسطة، وفي تقديري، أن ثمة مستقبلاً واعداً لصناعة البرمجيات في المملكة إن لاقت البيئة والتشجيع المناسبين بما يستوعب نسبة من الشباب السعودي..
وفي اعتقادي أن المجتمع السعودي الذي سوف يحكمه نائف صار مجتمعاً ثرياً بالقدرات والكفاءات في كافة الميادين، وصار لدى السعودية من الأسماء المتميزة ما تنافس به في كثير من الميادين ومن ضمن ما هو منشودٌ في عهد نائف هو أن يستمر في برنامج صناعة الأسماء والرموز ولاشك أنها مهمة ليست صعبة على رجل هوايته الأبرز هي حب الصقور..
إلى ذلك يتعين عليه تكثيف البرنامج الهادف إلى تعزيز الانتماء "وتعريق الهوية".. إذ أن هناك من يعمل ليل نهار على تحريض السعوديين على دولتهم ومنهاجهم..
وبالنظر إلى حالة النمو الطبيعي في حرية التعبير المسؤول فإن من المتوقع أن يبقي نائف على حالة الجدل الاسلامي الليبرالي داخل النخب المثقفة باعتباره ملح النميمة اليومية في الحياة السعودية المعاصرة..
وعدا المسائل الخاصة بتطوير حقوق المرأة فإنه يتركز أمام الأمير نائف تحدِ مهم يتمثل في مدى مقدرته على تنظيم عملية العمالة دونما اعتماد على نظام الكفالة الذي يسيء بقاؤه لسمعة النظام السعودي، كما أنه أصبح باباً يسهل المخالفة للقوانين سواء من قبل الكفلاء أو من قبل المكفولين.
العائلة الحاكمة
بوصول الأمير نائف إلى لقب خادم الحرمين، سيتوجب عليه تعزيز وتأمين آلية انتقال السلطة داخل العائلة المالكة بشكل يستوعب مقتضيات التقادم الزمني وبما يحول تماماً دون حدوث أي خلاف على العرش أو على المناصب الأخرى داخل الأسرة المالكة.. فالتاريخ يقول إن الدولة السعودية الأولى والثانية، ولم تؤتيا إلا من داخل الأسرة نفسها جراء تضارب الأهواء واستحكام الخلافات بين الأمراء دون وجود آلية ناجعة للحلحلة..
مؤمَّلٌ من الأمير نائف أن يعمل على إيجاد أعلى درجات الانسجام داخل الأسرة، وهذا الانسجام لا يتأتى بطبيعة الحال عن طريق الاستبداد وفرض الرأي، بل عن طريق توسيع دائرة المشورة والمشاركة وفق آلية لا يختلف معها حول سببية اختيار الرأي (أ)، دون الرأي (ب).
ولعل أقصر الطرق إلى تحقيق هذا الانسجام تتمثل في حصر الأهواء المتضاربة إلى أضيق نطاق.. وذلك عن طريق خلق رؤى موحدة لدى النخبة الفاعلة تجاه القضايا الكبيرة والملفات المزمنة، وهذا يتأتى بوسائل شتى، منها تشجيع جانب الدراسات والبحوث في هذه القضايا.. وادماج الجيل الثاني من الأمراء ليس فقط كقراء لهذه البحوث والدراسات، بل كمعدين وباحثين بما يعزز انصهار هم في الهموم الاستراتيجية للمملكة.
وغير بعيد عن هذا فإنه جراء توسع العائلة المالكة، فيبدو وجيهاً وضع ضوابط للشفاعة الحسنة، بما يحقق متطلبات الجاه الأميري، وصيانة سمعته من جهة، ويحاصر سرطان الرشوة من جهة أخرى..
ويبدو مهماً تكليف الجيل الثاني من الأمراء في عديد ملفات قد يعدها البعض من قبيل الترف الاستراتيجي، لكنها من الأمور التي تعزز لحمة المجموع وتحاصر نوازع الفرد وتدحر البطالة السياسية التي توقع صاحبها في فخاخ الدسائس..
ولا ريب أن الاستمرار في توسيع دائرة المشورة والمشاركة إلى كافة فئات الشعب،هو أحد ضمانات الاستقرار واطّراد الثقة بين الحكومة والشعب..
الملفات الخارجية
لاشك أن مطامع إيران تقع بالتأكيد على رأس قائمة التحديات الخارجية للمملكة، حيث سعيها الحثيث لتحريض جزء من شعب المملكة خصوصاً في المنطقة الشرقية، ومحاولة تكوين بؤر إقلاق أمني داخل المملكة على حدودها.. وأصبح الخطر الإيراني أكثر سطوعاً بعد أن صارت العراق ضيعة إيرانية، بمعنى أن إيران صارت تحادد السعودية من جهة الشمال عن طريق العراق، وتبتزهم عن طريق من جهة الجنوب عن طريق حوثيي صعدة.. وتعمل على خلط الأوراق في لبنان عن طريق حزب الله.. وتهدد كل عام بتحويل موسم الحج إلى تظاهرة ضد المملكة.. وتنطلق إيران من أطروحات دينية مفتراة يصبح نظام الحكم السعودي بموجبها مغتصباً للولاية العامة هناك.
الإدارة الحالية في إيران لا تختلف عن سابقاتها في هذا السياق والسياسة الإيرانية إجمالاً تجهد نفسها في تأكيد أن الصراع العربي الفارسي هو أحد الثوابت الجيوسياسية في تاريخ المنطقة، إذ تتحدث مصادر التاريخ عن أن أقدم معركة بين عرب العراق وفرس الضفة الأخرى كان قبل 4511 عاماً.. وعادةُ إيران أنها عندما تصبح دولة قوية (أيا كان شكل نظام الحكم فيها)، فإنها لا تنظر إلى الجوار العربي بعين الأخوة والشراكة بل بنظرة استعلائية ترى العرب وكأنهم الفريسة الحمقاء التي نالت من عشب التاريخ والحضارة أكثر مما تستحق..
بالتالي فإن تهذيب المطامع الإيرانية تجاه العرب، ومحاولة التودد، إلى طهران اتقاء لشرها،.. كل ذلك يبدو حرثاً في بحر.. والشيء الوحيد الذي يكبح مغامرات الملالي تجاه العرب هو أن يكون الجوار الغربي والسعودية تحديداً قوة سياسية وعسكرية صعبة التجاوز..
استمرار السعودية في سياسة إثباتات حسن النوايا تجاه طهران لم يعد أمراً مطلوباً إذ أن طهران نفسها واثقة تماماً من صدق نوايا السعودية والعرب عموماً ولكن الإشكال يكمن في أطماعها هي..
وفي هذا السياق، فإنه مع التأكيد على ضرورة وأهمية المضي في برنامج التحصين المذهبي والتعرية الإعلامية للمشروع الإيراني فإن من الواجب أيضاً تنويع أساليب مواجهة ذلك المشروع، إذ لابد ،مثلاً، أن يتوفر خبراء سعوديون في شؤون الداخل الإيراني.
آسيا
لقد كانت المملكة طيلة العقد المنصرم شريكاً صادقاً وناجحاً في التحالف الدولي ضد الإرهاب، ولكن الإدارة الدولية لهذا الملف أرادت عنوة أن يصاحبه تقليص للنفوذ العربي في دول آسيا الوسطى والنفوذ السعودي خاصة،.. حيث تقلص كثيراً في باكستان الدور السعودي رغم أنها تمثل استثماراً كلف السعودية الكثير من المال والوقت..
وبالتالي فإن محاولة استعادة الدور العربي في تلك المنطقة الحساسة للأمن القومي العربي أمر مهم.. ولقد بات واضحاً أن إيران حلت محل ذلك النفوذ وصارت مناطق الغرب الأفغاني وكأنها قطعة من السيادة الإيرانية.. وإزاء ذلك فإن الملكة مطالبة كذلك بلعب دور أكبر في التقارب بين رئتي القارة الهندية لأن انتهاء التوتر بين نيودلهي وإسلام أباد يصب بالتأكيد لصالح الأمن القومي العربي الذي صارت السعودية بما يتوفر لها من استقرار سياسي معنية به أكثر من غيرها.
تركيا والثورات العربية
في تقديري أنه ليس ثمة ما يبعث على خشية الرياض من الدور التركي في المنطقة، رغم أن هناك من يحاول تضخيم المخاوف وصناعة التوجس.. وفي تقديري أن الأمير نائف سيتختصر على السعودية الكثير إن وضع أصابعه على الخيوط الفاصلة بين موجبات ومخاوف هذا الدور..
أما بالنسبة لثورات الربيع العربي فإن على الأمير نائف تحقيق المعادلة الصعبة المتمثلة في الاستفادة من مخرجات هذا الربيع، والحيلولة دون انتقال عدواه إلى الداخل السعودي، فالعدوى قد تنتقل حتى مع انتقاء الدواعي.. ورغم ذلك فإن تعامل السعودية مع الربيع العربي بحذر شديد يظهرها ضعيفة ويغري خصومها بالتحريض ضدها داخل مجتمعات الثورة.
وإلى الآن لازالت مخرجات هذا الربيع لصالح المملكة حيث طوت ثورة ليبيا صفحة العقيد الذي كان مصدر قلق للمملكة كذلك فإنه بنجاح الثورة السورية يتحصل تأمين المنطقة من النفوذ الإيراني المقلق.. وتكون الذراع الممتدة إلى لبنان بُترت.. بالتالي يتوجب على الإدارة السعودية أن تعتبر نجاح الثورة في سوريا معركة مصير.. لأن فشل تلك الثورة المحتاجة للدعم، سيرتد عسكياً لصالح إدارة الشر في طهران.. أما اليمن فالمرجح أن إدارة الرياض لم تعد تفكر هل سيذهب النظام أم لا.. ومهم ألا تكون المملكة آخر الواصلين لدعم العهد الجديد الذي صار في حكم المحتم سواء عبر المبادرة الخليجية أو غيرها..
وبالنسبة للملف الفلسطيني، فلا يبدو أن ثمة ما هو مطلوب حاليا من المملكة كموقف منفرد تجاه هذا الملف، إلا وفقاً للمنظومة العربية وموقف المنظومة معلَّق حالياً إلى أن تنضج صورة التشكيلة التي ستنبثق عن الربيع العربي...
الغرب وأمريكا
ومثلما أن مكانة المملكة في العالم الإسلامي تجعل من المحافظة على أمنها أمراً يهم كل مسلم.. كذلك فإن الواقع الاقتصادي لها، كمنتجة للنفط ومستهلكة لبضائع العالم، يجعل من أمنها أمراً تحرص عليه المنظومة الدولية جمعاء، ولكن نظام الحكم الحصيف هو الذي لا يكتفي بالتعويل على هذه المعادلة..
اليمن
لا يوجد بلد يتأثر بجواره كما يتأثر اليمن بالمملكة والعكس.. وفي ظني أن الحكام السعوديين منذ قيام الدولة قلبوا كافة احتمالات الأذى القادم من اليمن، ولكنهم لم يبذلوا جهداً كافياً لتقليب الفوائد المتوخاة من هذا الجار الحيوي..
ولا شك أن الرياض مطالبة بتطوير آلياتها في التعامل مع الملف اليمني تلك التي ظلت لعقود حبيسة اللجنة الخاصة التي تكلف السعودي الكثير، ولا تعود بنفع يذكر عليها أو على اليمن، بل أنها وسعت من دائرة المغتاضين، من المملكة بشكل هي في غنى عنه.
ولاشك أن الحرص على وحدة اليمن يعكس نضجاً كبيراً في العقل السياسي السعودي، ولكن يتبقى أن يطور السعوديون نظرتهم لليمن من طور كونها الشر الذي لابد منه.. إلى طور الخير الذي لا بد منه.. وليكن واضحاً وجلياً في ذهن السعوديين أن كل من يختلف مع المملكة في اليمن يختلف معها خلاف مواقف وسياسات، إلا وكلاء إيران فهم الوحيدون الذين خلافهم مع المملكة خلاف وجود.
اليمن مقبل على عهد جديد بالتزامن مع صعود ولي العهد الجديد.. واليمن هو الملف الأكثر تعقيداً والأسهل حلاً، بالنظر إلى كافة التحديات الملحة التي تطرح نفسها على طاولة الأمير نائف، وليس أمام المملكة وفقاً لكافة التحديات الماثلة أمامها إلا أن تغدو دولة أكثر تأثيراً وفعالية في مجالها الحيوي..، وبإمكان اليمن أن يكون نقطة الأمان الأولى التي تكسبها المملكة، وتكون محور ارتكاز في هذا الدور المرتقب.. كيف يمكن ذلك؟ هذا السؤال الذي أجزم أن النخبة الحاكمة في السعودية لا يمتلكون إجابة واضحة، حتى الآن، عليه!