يختصر الصحافي الكاتب محمد حسنين هيكل، المشهد اليمني المعاصر في جملتين لا ثالث لهما، وبنفس القدر لا يرى في سوريا سوى استدعاء تلقائي لما جرى في مصر! فاليمن مختزل في قبيلة تتوق إلى دولة، واليمانيون كوم ديمغرافي يمثل قلقاً مستديماً لدى دول الجوار الإقليمي!
تلك هي التعاميم التي قالها في معرض دردشة تلفزيونية في قناة الجزيرة، ومن اللافت أنه لم يكن يكمل جُملة مفيدة، حتى بدا لي وكأنه يقوم بنوع من التجريب المونتاجي القلق، وفي السياق كانت اللوازم اللهجوية، بمثابة المخرج من الرد على الأسئلة.
وبغض النظر عن هذه الدردشة، أود الإشارة إلى أنه في ما يتعلق بالشأن اليمني، كان هيكل "يهرف بما لا يعرف"، أو يتحدث بطريقة استنسابية، لا علاقة لها بالحقيقة الماثلة. ولقد كانت قراءته للشأن اليمني مُجيرة على انطباعات متقادمة، تذكرنا بما كان عليه حال اليمن الشمالي بعيد ثورة 26 سبتمبر عام 1962، ضد نظام الإمامة في شمال اليمن.
لكن ما يغيب عن بال هيكل وأمثاله من المقيمين في مرابع الذاكرة الانطباعية الأولى، أن الدولة اليمنية كانت قائمة حتى في ظل الإمامة المتوكلية، التي سبقت النظام الجمهوري في شمال اليمن، وأن الأنظمة الدواوينية السلطانية، والتشريعات الدولتية، المواكبة لذلك العصر، كانت حاضرة بسخاء، في سلطنات وإمارات ومشيخات جنوب اليمن. أمّا مدينة عدن، فلقد كانت أول مدينة في الجزيرة العربية عرفت أنظمة البنوك، وشركات التأمين، والتجارة العابرة للقارات، والمحاكم المتخصصة، والمواطنة العصرية المفارقة للأعراق والسلالات والقبائل، والانفتاح على الشعوب والثقافات، وذلك قبل غيرها من المدن العربية في الجزيرة العربية، مما هو معروف ومسطور في كامل الأدبيات السياسية والقانونية والتنظيمية والتاريخية. وعندما جاءت دولتا شمال اليمن وجنوبه، ورثتا كامل التقاليد السابقة، وطورتاها، دونما إغفال أو استبعاد إجرائي للمكونات الاجتماعية، القبائلية، الموروثة من التاريخ.
لكن ما هو جدير بالإشارة، بل بالتوقف، هو أن هذه المكونات ليست سمة يختص بها اليمانيون، بل تمتد بذات السخاء والحضور الأدبي والاجتماعي في كامل الجزيرة العربية، وامتدادات الصحراء، بحيث لا يمكننا استثناء كامل سكان الصحراء الكبرى في إفريقيا، وأيضاً جنوب مصر وسيناء.
لهذا السبب، كان هيكل متسارعاً، وهو يتحدث عن اللازمة القبائلية اليمنية كما لو أنها سمة سلبية بإطلاقها، أو أنها حكر على اليمن المعاصر. قد لا يعرف هيكل، أن البنية القبلية التاريخية في اليمن، شهدت، وتشهد، تحولات جذرية خلال العقود الثلاثة الماضية، فالتمدين شمل مختلف المحافظات اليمنية، وصهر الأعراف والتقاليد القبلية في المرجعيات القانونية المعاصرة، وأكبر شاهد على ذلك، ما تشهده ساحات الشباب في عموم المدن اليمنية، من حضور أفقي لكامل المكونات الاجتماعية، ممن يتخلّون بطريقة حرة عن تقاليد السلاح، والتواشجات العصبوية، مستبدلينها بتقاليد السلم والتضامن الوطني.
تُقدم ساحات التغيير في اليمن ملحمة كفاحية سلمية مقرونة بقضية عادلة، فيما تضعنا مباشرة في المستقبل الذي يكشف تهافت الأجهزة المفاهيمية النمطية، عند من يعتقدون أن المستقبل محصور في دائرة جغرافية بذاتها. ولقد أثبتت تونس الثورة، ثم التغيير الديمقراطي الماثل، أسبقيتها في الربيع العربي.
المتغير الزلزالي في العالم العربي، لا يلاحظه هيكل إلا من خلال مُسبقاته الذهنية ومعلوماته المتقادمة، وهكذا ينخرط في بورصة الأحاديث السياسية المسلوقة، مُكرراً أن الحالة اليمنية ليست سوى قبيلة تتوق إلى الدولة، وأن اليمانيين ليسوا سوى مستودع ديمغرافي يقلق الأرستقراطية العربية المجاورة لهم.
ولنبيّن لصاحب الرأي تهافت ما يذهب إليه، أقول إن اليمانيين في المهاجر العربية القريبة، يمثلون رافعة كبرى في التنمية الإقليمية، وإنه لمشهود لهم بالاستقامة والخلق الرفيع، وثقافة عمل موروثة من أسلافهم الكبار، بناة حضارات سبأ وحمير ومعين وقتبان وحضرموت، وإن الحضور اليماني في دول الإقليم العربي النفطي لا يمثل مشكلة، بل العكس تماماً، وهذا أمر يدركه القائمون على أمر تلك الدول، ناهيك عن وشائج الصلة التاريخية الجغرافية في الجزيرة العربية، والتي لا تستقيم خارج المعيار اليمني. إلى ذلك، ولمزيد من المعلومات، أعيد إلى ذهن الأستاذ هيكل بعض الحقائق الجغرافية السكانية، التي تجعل من اليمن المعاصر فراغاً سكانياً، قياساً بقابليات التنمية الأفقية. ولابأس هنا، من ذكر مساحة الأرض التي تصل إلى 555 ألف كيلومتر مربع، وتتضمن ودياناً تاريخية خصيبة، وجبالاً شاهقة تمثل مساحة إنتاج وإعادة إنتاج للحياة، لأكثر من 70% من سكا ن اليمن القادرين على تدوير حياتهم اليومية دونما اعتماد على الدولة الافتراضية، كما أن السواحل اليمنية المترعة بالثروة السمكية، تمتد إلى أكثر من 2500 كيلومتر. وتضاف إلى كل ذلك سلسلة الجزر اليمنية، التي تصل إلى 300 جزيرة، جُلها خاو على عروشه وغير مسكون.
أحببت الإشارة إلى هذه الحقائق، لتبيان أن الفقر في اليمن ليس بسبب البلاد، بل النظام البائس الفاسد، تماماً كما هو الحال في مصر، وغيرها من بلدان العرب المأفونة بأنظمة الفساد المتجهمة. ولا بأس أيضاً من إضافة هامة قد لا يدركها هيكل، وهي أن العمق السكاني اليمني الذي يصل إلى 25 مليون نسمة، يوازيه عمق سكاني مهجري يمني لا يقل عن هذا الرقم، ويُشكّل بجملته رافداً مهماً في الاقتصاد اليمني.
إن اليمن ليس النموذج الفولكلوري الوحيد للقبيلة العربية التي لا نستحي منها، ولا نعتبرها سبّة في وجوهنا، كما أن العمق السكاني اليمني معادل حاسم للتنمية الشاملة، لا العكس. ولنا في الصين والهند كل العبرة، هنالك حيث تحول العمق البشري في هذين البلدين إلى عامل نماء، يشهد له القاصي والداني، فيما أصبحت أعماقنا الديمغرافية العربية سبباً للفقر، والشاهد على ذلك مصر واليمن.
اليمن ليس بحاجة إلى أسماك تقدمها له دول الجوار، بل إلى نظام راشد، يسمح بتفتق العقول والأذهان، وبتعظيم التنمية الأفقية.. نتساوى في هذا الأمر مع مصر والجزائر والسودان والعراق، وغيرها من بلاد العرب المخطوفة عن عبقريتها وتاريخها وسكانها الأوفياء.
وأختتم بعتاب بالغ لقناة الجزيرة، التي حاصرت ذاكرتها بأسماء ورموز، تخلت عن مجد ماضيها ووقعت في وهدة "الحكي" مقطّع الأوصال.. ضعيف الأبعاد والمعاني. على الجزيرة أن تقبض على جمرة نجاحها الحقيقي، عبر الجغرافيا الثقافية العربية العامرة بالأسماء والقامات الرصينة، بدلاً من تسويق الخواطر العابرة.
كاتب وباحث يمني