[esi views ttl="1"]
أرشيف الرأي

متوالية السقوط.. رابعُهم صالح

كم تدهشنا وقائع التاريخ وهي تطل في حياة الشعوب في تكرار عجيب!! بل كم يتعاظم ذلك الاندهاش وهي تسير في وثباتٍ وانثناءات مماثلة أو تكاد تكون!! لكن؛ قلما يدرك ذلك أريب من الناس، وبخاصة من هم في غمار هذه الوقائع؛ ألا وهم الحكام، وهي تلوكم بحداد سنانها ليل نهار، حتى إذا ما بلغ بهم الزهو الخادع مبلغه تأخذهم أمواجها العاتية من أعلى قمة لتسقطهم في أدنى قاع.

وها هو الرئيس علي عبدالله صالح يملأ خانة متوالية السقوط بالرقم أربعة، وماتزال المتتالية بانتظار عناصرها الأخرى، وسط دوامة الفصول الثورية الجامحة، بصرف النظر عن حالة تلك الخانات الحسابية وأرقامها، وقد تميز السابقون فيها بين طريدٍ وسجينٍ وقتيلٍ، أما آخر هؤلاء؛ فناجٍ من تحت رماد الموت!! وهو على حالته تلك؛ يجرنا من خلال مفردات آخر خطاب له إلى زوايا القلق مما يخبؤه في نفسه أو يحيكه أساطين قصره، بعد أن جرى بنا طويلا من محفل إلى آخر، ومع أنه قد صار رقما رابعا ملأ خانة من خانات متوالية السقوط تلك، إلا أننا فقدنا القدرة على تفسير هوية التسوية لهذه الثورة مع ترداد السؤال: لماذا شذت ثورتنا عن أخواتها شكلا ومبنى؟!!

علينا -أولاً-أن ننظر بعمق إلى محيطنا بأبعاده المختلفة، وعلينا أن ننظر في تشابك المصالح، وتداعيات الأحداث، وخصوصية الجغرافيا التي تتحكم في كل ظاهرة عالمية أو إقليمية، على هذه الرقعة الجغرافية الحساسة، وفي تأثيرات الموقع والموضع؛ عندها سنفهم مدى ما لكل هذه المحددات من أثر كبير في تجلي نهاية أهم فصل من فصول الحراك الثوري اليمني، وظهوره على هذه الصفة التي أكتمل كيانها في الرياض؛ الأربعاء الفائت؟

يَنظر قادة وسياسيو ومفكرو الغرب إلى منطقة الخليج العربي على أنها سلة نعيمهم العامرة بالخير، من خلال برميل النفط الذي يستديم به اشتعال مداخن مصانعهم ووسائل تنقلاتهم الحديثة، بحيث لو اعترى هذه السلة اضطراب ما في وضعها؛ لَلَحِق بهم الجوع والخوف ولاختلّت أنظمتهم القابضة على أعناق الشعوب الأخرى، ولتوارت كسابقاتها من الدول في مجاهل الغيب. ولذلك؛ فإنهم يتعاملون مع أي قوة أو حدث طارئ في هذه المنطقة على نحو ما يجري التعامل به مع رجل متهور يقبض في يده قنبلة مهيأة للانفجار في جمهور غفير من الناس.

واليمن؛ هذه الكتلة الجغرافية والبشرية، في هذا الامتداد الجغرافي الخطير؛ له وضعه الذي يحسب له من كافة النواحي، ولذلك؛ فإن السياسات الداخلية والخارجية للولايات المتحدة الأمريكية وسياسات الدول المرتبطة بها في منطقة الخليج العربي، وكذا سياسات دول أوروبا الغربية تجاه هذه المنطقة، فيما يخص مجالات أمنها المتعدد، كل ذلك يجعل من هذه الكتلة جزءا هاما لا يتجزأ عن الامتداد المحيط به، دون اعتبار للتباين السياسي والاقتصادي والثقافي الذي يبعدها قليلا عن مركز هذا الامتداد؛ ذلك أن اليمن وغيرها من دول هذه الرقعة المغرية تبدو كغصنٍ في دوحة كبيرة مثقلة بالثمر، ولن يُسمح بأي حال من الأحوال أن يكون أحد غصونها سببا في قطع هذه الدوحة أو اجتثاثها أو اضطراب محيطها.

ولتأكيد هذه الفكرة أكثر؛ هل ستكون أجوبة الأسئلة التالية كافية لفهم ما يجري، أو لإبانة ما يراد له أن يجري؟ هذه الأسئلة هي: ما قيمة تداعيات الثورة الملتهبة في اليمن بجانب قيمة تداعيات الثورة المدفونة في البحرين؟ وما مردود تلك الحلول التي صنعت في معمل سياسي ذكي وموحد، على مفاصل الوضع القُطري والإقليمي والدولي، وعلى أهم أشخاصه المُمسكين بأعنته؟! إن الفرق الجوهري بين ما يجري في اليمن وما يجري في البحرين- وكليهما من كيانات المنطقة الملتهبة اليوم- وذلك من وجهة نظر الغرب والأمريكان- أن البحرين تقع على فوهة البئر النفطية أو حوافها، فيما يقع اليمن في طريق تدفق نفط هذه البئر، وهو -دون شك- أقوى الفروق وآكدها، أما ما سوى ذلك من قواسم الاشتراك والاختلاف الأخرى فهي أمور تذللها مساعي الساسة في الاتجاه الذي يخدم مصالح الحراس الكبار.

إن الغرب والولايات المتحدة الأمريكية يبتعدون قد المستطاع عن خيارات العنف في هذه المنطقة، في ظل توفر البدائل الدبلوماسية، ولا يلجؤون إلى ذلك إلا في حالة شعورهم أن الشريان النفطي تناوشه الأخطار الأكيدة؛ وأبلغ الأمثلة على ذلك؛ حرب الخليج الثانية التي اشتعلت شرارتها الأولى في الثاني من أغسطس عام 1990م، مع بلوع القبضة العراقية منابع النفط الكويتي؛ حينها كان الهدف العسكري المشترك هو العراق؛ وهو مصدر الخطر بإجماع المتضررين على تناقض أفكارهم، وكانت النتائج في أعلى قيم الإيجاب المتوقعة؛ كل في ميزان أرباحه.

قبل عام 1990م؛ كانت اليمن بشطريها في دائرة الرصد من قبل ما كان يطلق عليه القوى الإمبريالية والرجعية، لأن موقعهما وموضعهما والشكل السياسي والتوجه العام للنظامين القائمين آنذاك؛ كل ذلك استوجب إعمال تلك المحاذير، وبمجرد تفكك قوة القطب الروسي وتصاعد الفردية الأمريكية، أصبح الجميع في جعبتها، وجرت على اليمن بعد توحدها السياسة المتبعة في محيطها، وتحولت منذ ذلك الوقت إلى حارس نشيط وبأجرٍ زهيد، يحرق ماضيه ومستقبله في سبيل حماية المخنق النفطي الثاني "باب المندب "وأحد المقاتلين بالوكالة في وجه رجال القاعدة على حافة البحر العربي وخليج عدن والبحر الأحمر.

وأخيرا، وقريبا عما جرى؛ زمانا ومكانا، أتصور أن تسعين يوما كمدىً أول، وعامين كمدىً ثانٍ حددتهما الآلية التنفيذية للمبادرة الخليجية، لتحقيق ما اتفق عليه، سيكونان كافيان لاختبار الأجدر بنيل ثقة الغرب وثقة الجوار أيضا، وليت شعري؛ هل سيكون لليمن نصيب من هذا الجهد وقد ابتل ثراها بالدماء الزكية من أبنائها؟ إن هذا الأمر مرهون بما ستكشف عنه المرحلة القادمة، إنْ يمَّم المتناقضون المؤتلفون وجوههم في اتجاه واحد، هو اتجاه البناء والسلام وتجاوز الماضي، أو هكذا يخيل لي- وأنا مثل غيري- أحاول إبداء التفاؤل، لكنني أشعر أن الحذر ما يزال في مراتب الوجوب؛ ليس عندي كمراقب فحسب؛ بل عند كل مواطن يمني.

* باحث في شئون النزاعات المسلحة والبيئة

زر الذهاب إلى الأعلى