بالأمس، كانت جماعات الطيف السياسي المعارض -دون استثناء-تنظر إلى نظام ما قبل يوم 23 نوفمبر 2011م، على أنه المسئول الأوحد عن الحالة غير الطبيعية التي وصلت إليها اليمن، في مختلف الجوانب، الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وغيرها..
وقد أخذت تلك الجماعات تعبر عن مواقفها الساخطة إزاء ذلك النظام عبر طرق العمل السياسي المتاحة، غير أن ميلاد الربيع العربي شق الصمت الشعبي وأطلق لسانه المعقود ليغدو البوح صيحات مدوية، والتقت قيادات العمل السياسي مع قواعدها الشعبية على أتم صورة، وتطورت أدوات العمل السياسي مع تطور تعقيدات العمل الثوري في الساحات الثورية، لكن المتوجسين من شواظ نار الثورة في الداخل والخارج جعلوها تتمخض عن مولود عليل وقد أرهقته دعكا وتدليكا أيدي القوابل من هنا وهناك.
ولذلك، سيكون من الحرص توخي الحذر من المآلات المحتملة للمحصلة الثورية الموجودة، في ظل بوادر مقلقة تستهدف الروح والجسد معا، وإني لأخشى على هذه المحصلة الممثلة بهذا المولود الغض الذي لم يتجاوز شهره الأول، وقد بدا أمر تعافيه ممكنا، أن يبلغ من فرط حب أهله له وهم يصطرعون عليه ويتجاذبونه من يد ليد، أن تستأثر به جماعة أو أشخاص بعينهم، أو أن يجعلوا مصيره على نحو مصير ابن تلك الهرة الحمقاء التي من شدة حبها لوليدها أكلته ولم تندم لما فعلت، بل راحت تبحث من جديد عن حَمْل آخر ومخاض آخر، ويعلم الله أتحيا هي الأخرى أم تلحق بوليدها في مخاضها الجديد؟!!
إن من يراقب تفاعلات المشهد السياسي في ساحة اليمن اليوم ليحسّ أنه أمام مشهد براغماتي(ذرائعي) على إيقاع سياسي طائفي ومناطقي ذميم، يلهث في أوساطه انتهازيون محترفون تطغى مصالحهم الخاصة على مصالح الأمة، ويزايدون في قضايا المجموع لاجتناء مغانم ذاتية؛ ولو كان الثمن تلك الدماء والأرواح الزكية التي بذلت قرابين لعزة اليمن وحريتها ووحدة ترابها؛ وما يبعث على الحسرة أكثر، أن نجد بين ذلك الطيف بعض رجال العمل السياسي الذين كنا نحسب نقاء سرائرهم وطهر أيديهم، وقد لحق بقافلتهم من أشباه المثقفين الباحثين عن ضالتهم في خسيس المغانم من هم على تلك الشاكلة.
لقد كشفت الأيام القليلة الماضية من عمر هذا الوفاق، وبكل جلاء، أن مواقف أولئك إنما جاءت كردة فعل على سقوطهم من حسابات قسمة التسوية التي جرت، بعد ما كانوا يرومون منها الظفر ولو بكرسي بلا ظهر، فلما لم ينلهم ذلك، انبروا يذرعون البلاد طولا وعرضا، يثبطون العزائم في كل محفل وملتقى، وهو يذرُّون الرماد في العيون، ويمنُّون البسطاء والأغرار من الناس بواقع رغد خارج سياق الوحدة الوطنية لليمن الكبير، تحت مسميات التمزق التي لا تتفق مع الكثير من قواعد الدين والتاريخ والخصوصية المطلقة لهذه المساحة الجغرافية التي يُنظر إليها بعين الاستحواذ والقلق، ولكننا نثق تماما أن لهذا البلد شباب مخلصون لا تنطلي عليهم نواعق الشؤم، ولن تغتال مكائد ودسائس تلك النواعق روح الوطن الواحد المتجذر في ذوات هؤلاء الشباب.
إن طروحات فك الارتباط أو الانفصال أو الفيدرالية على أقل طرح التي يتشدق بها أولئك الانتهازيون في شمال الشمال أو في الشرق أو الجنوب أو الوسط، في هذه الظروف الدقيقة والحساسة، لهو من أبشع صور الذرائعية التي تبتز هذا الوطن وهو في طور تعافيه من مرضه العضال، وفي لحظة تضميده من الجراح التي أدمته أيدي الهدم لسنوات، كما أن كل تلك الدعاوى إنما هي نكث لمواثق القيم الدينية والقومية والوطنية، بل وتنكُّر لتضحيات الشهداء من الرجال والنساء والأطفال الذين وهبونا هذا اليوم الحر، وهي كذلك بخسٌ لنضالات الوحدويين الذين نذروا حياتهم في سبيل وحدة اليمن بل ورووها بدمائهم وحرسوها بأفكارهم في مراحل الطموح وفي واقع التحقيق.
إن الثورة-وإن لم تحقق كل غاياتها بعد- لم تكن أمرا ترفيا ولن ترضى بأن يكون من محصلاتها التشرذم والتمزق، ذلك أنها جاءت لتزيدنا التحاما وتماسكا، لا لتمزقنا تحت أهواء نفر من الناس تغرق نفوسهم الصدئة في مستنقعات الحقد والكراهية على صورها المختلفة؛ المناطقية والمذهبية والسياسية والفكرية، ولعمرى لقد افتضح أولئك ونحن على أبواب عهد جديد- ونحمد الله على ذلك- ولم تُطل بهم نوايا السوء التي كانوا يضمرونها لينالوا منه، وقد كنا نحسبهم بعض حماة قافلة الوطن الواحد، لكنهم بعدما أشهروا مُداهم تلك، ظهرت سوء نواياهم وتذكرنا قول أخي كنانة:
أتينا إلى سعدٍ ليجمعَ شملنا .. فشتتنا سعدُ فما نحن من سعدِ
*باحث في شئون النزاعات المسلحة والبيئة