يتساءل كثير من المراقبين وهم يتابعون باندهاش كبير ما يحدث في العديد من المؤسسات الحكومية والأمنية والعسكرية اليمنية من ثورات أطاحت بالعديد من مسؤوليها، عما إذا كانت المكونات الرئيسة لنظام الرئيس علي عبدالله صالح قد بدأت في التحلل فعليا رغم استمرار تواجده الصوري على رأس السلطة ورغم استمرار هيمنته عبر أقاربه على بعض قوات الجيش والأمن، هذه التساؤلات تحتاج للرد عليها إلى تأملات في اتجاه ما يحدث في هذه المؤسسات، وهي إن تواصلت بالطريقة التي حدثت بها خلال الأسبوعين الماضيين فإنها تنذر بانهيار كامل للمكونات الرئيسة لنظام صالح وليس بانهيار في مؤسسات الدولة.
فقد ظلت المؤسسات التي نجحت في تغيير قادتها ومسؤوليها بالاستمرار في أداء مهامها ولم يحدث بداخلها أي اختلالات، والتساؤلات الآن عما إذا كان هذا هو التوقيت المناسب للقيام بهذه الانتفاضات داخل المؤسسات، وكذلك إذا كان الأسلوب الذي تمت به هو الأسلوب المناسب والصحيح؟
تردد الرئيس المنتهية ولايته علي عبدالله صالح كثيرا في التوقيع على المبادرة الخليجية، وكان يختلق الأعذار للتهرب من التوقيع حتى وهو في الرياض أثناء فترة علاجه بعد حادث تفجير جامع الرئاسة، وابتدع له مستشاروه حينها فكرة تفويض نائبه عبدربه منصور بالتوقيع على المبادرة كنوع من المماطلة وكسب الوقت، وعشية توقيع هادي على المبادرة عاد صالح فجأة من الرياض ليمنع التوقيع، ومنذ ذلك الحين قرر نائبه الامتناع عن التوقيع مهما كلفه الأمر، ونجح بذلك في وضع صالح في زاوية ضيقة ذلك أن هادي يمارس العمل السياسي باستقامة ووضوح ويكره المناورات والعبث بمصالح الناس.
ولما وجد صالح نفسه ملزما بالتوقيع بفعل الضغوط الإقليمية والدولية وانتقال الملف اليمني إلى مجلس الأمن، أخذ يبتدع الشروط والتعديلات على الآلية التنفيذية واستمر في مناوراته التي أصبحت مكشوفة للداخل والخارج على السواء، وعندما استنفد كل أوراقه قرر الذهاب للرياض للتوقيع هناك ليعطي لنفسه شيئا من المشروعية الداخلية والخارجية وبعضا من مهابة فقدها بفعل كثرة المماطلات والمناورات التي تعامل معها الجميع بصبر كبير وسعة صدر غير مسبوقة.
كان صالح يخشى أن يؤدي توقيعه إلى حدوث انهيارات في صفوف من تبقى من مؤيديه سواء على صعيد حزبه أو على صعيد أجهزة الجيش والأمن، فهو يدرك جيدا سيكولوجية أتباعه، باستثناء أقاربه، الذين لم يصمدوا معه إلا مقابل مصالح واضحة ظلوا يجنونها حتى آخر لحظة، ويدرك أن الكثير منهم سيبحثون لأنفسهم عن طرق أخرى غير طريقه في حال أدركوا أنه أصبح بالفعل على وشك مغادرة السلطة، وهي طرق لا تمر بالضرورة بنفس خط الثورة الشعبية الشبابية، إنما يمكن أن تمر بموازاتها في محاولة لكسب تأييد الشباب بعد أن خذلوهم طوال العام الماضي.
لذلك كله ظل الرئيس صالح يسعى للحفاظ على معنويات أتباعه مرتفعة تارة بتأكيده أنه سيسافر إلى الخارج وسيعود لممارسة العمل السياسي معارضا، وتارة بالإيحاء بأنه سيظل رئيسا للمؤتمر الشعبي العام، وتارة بتوجيه الانتقادات لشركاء حزبه في الحكومة، وتارة بإصدار قرارات وأوامر، إلا أن ذلك كله لم يعد قادرا على إخفاء حقيقة أن حياته السياسية قد انتهت وأن غيابه عن الساحة السياسية أصبح مسألة وقت لا غير، وأن ابتعاده عن المسرح السياسي سيعني بالضرورة ابتعاد أقاربه أيضا، وهذا كله إضافة إلى بدء تنفيذ المبادرة وتشكيل حكومة الوفاق الوطني واللجنة العسكرية المعنية بإنهاء التوتر.
هذا كله أعطى موظفي أجهزة الدولة مدنية وعسكرية وأمنية قدرا عاليا من الثقة بأن عهد القبضة الأمنية قد ولى وأنه لم يعد هناك ما يخيف، خاصة مع ملاحظتهم أن العائلة الحاكمة لم تعد صاحبة القرار في البلاد كما كان عليه الأمر قبل توقيع المبادرة، وأن تأثيرها أصبح محصورا في أضيق الحدود حيث لا تكف عن إثارة الإشكاليات ومنع إعادة الخدمات العامة واختلاق الأزمات وإطلاق التهديدات، وكان آخرها إعادة جمعة السبعين المثيرة للشفقة من حيث ضآلة عدد المشاركين فيها واجتلاب خطباء فيها لا يجيدون سوى الشتائم وإثارة النعرات العصبية، وهي الجمعة التي لم تغطيها وسائل الإعلام الحكومية للمرة الأولى.
وجد موظفو أجهزة الدولة أنفسهم في مواجهة استحقاق التغيير، فانطلقت تحركاتهم العفوية ونجحت في الإطاحة بالعديد من قادة هذه الأجهزة، الأمر الذي خلق حالة اهتزاز عميقة داخل مكونات ما تبقى من نظام الرئيس صالح الذي كان يعتبر هذه الأجهزة قلاعا لا يمكن أن تتأثر، وفيما سعى حزب صالح لإلقاء اللوم على أحزاب المشترك التي يعلم جيدا أنه لا حضور لها ولا تأثير في الأجهزة التي أطاحت بمسؤوليها، فإنه وجدها فرصة لإطلاق تهديدات جوفاء بأنه سينهي التزامه بالمبادرة الخليجية في محاولة للضغط على سفراء الخليج والغرب الذين يتولون مهمة الرقابة على تنفيذها، إلا أن هذا النوع من الضغوط هو أمر غير مجد لسبب بسيط أن المحيط الإقليمي والمجتمع الدولي يعلمان أن نظام صالح كان غارقا في الفساد حتى النخاع وأنهما حذراه كثيرا من مخاطر استشراء الفساد على استقرار اليمن واستقرار نظامه.
ولذلك فإن ما يجري اليوم في مؤسسات الدولة ردود فعل طبيعية ولا يمكن أن تكون هذه التحركات منظمة؛ لأنها تفوق تأثير أي حزب سياسي في الساحة، ومن الواضح أن سفراء الخليج والغرب وأحزاب اللقاء المشترك كانوا يفضلون لو أن تلك التحركات الغاضبة لم تحدث لكنهم يدركون جيدا أنه لا أحد قادر على منعها من ناحية وأن حزب صالح يعلم مثلما يعلمون أنها تحركات تلقائية ولذلك فإنه لا يستطيع التنصل عن التزاماته تجاه المبادرة الخليجية.