أرشيف الرأي

القاعدة الرداعية.. الحَطَّاب وحمالة الحطب

في أي واقعة حدثت في اليمن على امتداد عمر الثورة الشبابية الشعبية التي لم تبلغ بعد الضفة الأخرى من النهر، كنت وما زلت أضع نفسي أمام تساؤل هام، هو: لمصلحة من يجري ذلك؟ ومن ذا الذي يقف وراء ما يحدث؟ وهي قاعدة من قواعد التحري الشهيرة التي تقود إلى كشف جوانب كل حدث مبهم غامض، وقد زادت قناعتي بجدوى هذه الطريقة حين وجدتها أجدى من اعتراف الفاعلين ذاتهم، لما قد يحمله ذلك الاعتراف من تضليل ونأي عن إدراك الحقيقة والدفع بالتحليق بعيدا عنها.

قبل التوقيع على المبادرة الخليجية وبعدها، تبدو الأحداث كما لو كانت نسخا مكرورة، غير أن رجالها على صفات متقاربة حد التشابه، أو أنهم هم ذاتهم الأشخاص وقد ألّفَت بين قلوبهم وبنادقهم مشترَكات المقاصد، على أنه لا يخفى أن واحدا من تلك الأطراف هو أبرع الجميع وأجنى للنتائج، بحيث تكون أغلب النتائج التي تتمخض عن تلك الأحداث تصب في جرابه، وقد اعتاد على ذلك الربح كثيرا، لكنه الآن لم يعد كما كان، فدوام الحال من المحال.
إن من يتذكر أحداث زنجبار في أبين أواخر مايو الماضي، وكيف جرت التحليلات والتفسيرات حول حيثياتها ووقت حدوثها، ليُعيد تفسير ما يجري اليوم في مدينة رداع على تلك الصفة، وستكون الصورة مطابقة إلى حد ما، غير أنه-كما يقال-: لكل حدث حديث.

فقد جاءت الواقعة الأولى بعد أيام قليلة من واقعة حصار السفارة الإماراتية بمن فيها من الدبلوماسيين العرب والغربيين المجتمعين بانتظار التوقيع على المبادرة الخليجية، التي أفشلها ذلك الموقف الاستفزازي المشين، فكانت أحداث زنجبار استثمارا آخر ابتغى التغطية على ذلك الفعل وبدت وكأنها إيحاءٌ آخر بخطر أكبر مما وقع، فرحل المبعوث الخليجي عبداللطيف الزياني خالي الوفاض، وأُجل التوقيع على المبادرة إلى قدر صنعت فرص الوقت المهدور الكثير من الأحداث أبرزها حادثة مسجد دار الرئاسة التي أطالت من عُمُر الرئيس صالح على كرسيه الرئاسي المتقادم.

واليوم، تأتي أحداث مدينة رداع، مع اقتراب انتهاء فترة التسعين يوما لانتقال السلطة سلميا، ودنو موعد الانتخابات الرئاسية التي تطوى معها حياة علي عبدالله صالح كرئيس لليمن لأكثر من ثلاثة عقود، بحسب بنود هذه المبادرة، حيث تتجلى مع هذه الواقعة صورة مريبة وأمر يشير بأصبع الاتهام إلى المستفيد الحقيقي والرئيس من ذلك، ولا يمكن أن يصدق عاقل أن ما جرى في زنجبار أو ما يجري في رداع هذه الأيام على أيدي من يوصفون برجال القاعدة هو فعل جاد لتأسيس منطقة سيطرة دائمة لأي من خلايا هذا التنظيم، وإن كانوا بالفعل يرومون ذلك، وهو أمر دونه خط القتاد!!

إن أحداث زنجبار أبين التي تعدت قبل السيطرة عليها المائة يوم، والتي ما يزال جمرها اليوم يتقد من تحت رمادها، وكذا أحداث دماج صعدة التي بدت وكأنها تطوي لحافها المتعدد الألوان، فإنه يدفع الحال ليقول على لسان المستفيدين من استمرار هذه الصراعات والاختلالات الأمنية: إن مسرح صراع آخر يجب أن يفتح، وإنه يجب أن يكون أقوى وأشد، وما يحدث الآن في رداع هو ذلك المسرح على تجليات تعقيداته التي هُيئت لسنين، وهو بذلك وجه جامع لوجوه متماثلة ومتناقضة في نفس الوقت، قوامها الدين والسلطة والقبيلة والخصوم الداخليين والخارجيين لكل طرف متورط فيها على حده.

إن هذه الأوراق-على خطورتها- بائسة ومفضوحة لأنها من صنع رجال نظام مترنح يحسب كل تميمة ضالة ومُضِلة ستكون دواء ناقعا لعلاته القاتلة، وقد التقي معه شركاء المصلحة والتزييف من رجال الوجوه السبعة، في محاولة تحقيق صدى يبلغ آذان كل سميع أنهم هناك، فعلا وأثرا، وأنه ما يزال بوسعهم فعل ما لا يتوقعه أحد، لكنها زفرة من زفرات الموت الأخيرة، وعساها لن تتكرر، وستلقى مصيرها على نحو شاكلاتها، بل على أقسى وأمرّ مصير.
أما رجال الثورة المخلصون ومعهم أنصارهم في كل مدن اليمن، فسيكون أبلغ ما يمكن أن يقال في وجه أولئك، على اختلاف أهوائهم: لن تُثني تلك الدسائس والأعمال الميتة عن مرور ما تبقى من تسعين عمركم، ولن تكون النهاية كما تشاؤون بل كما تشاء الأمة التي دفعت ثمن فجرها باهظا.

كما لن تثني تلك العوائق والأحابيل المفضوحة اليمنيين عن إجراء الانتخابات الرئاسية في موعدها، وسيحترق حُطّاب الليل بحطبهم، ويصطلي حمالو الحطب بجمر الثورة التي لن تترك مخاتلا أو أفاقا منهم في منظومتها قادمها، وقد بدأت عملية الكنس من أعلى سلالم الصرح، كما أنه لن تخيف الشباب أشواك أولئك الحطابين، أما أبناء البيضاء فسيثبتون للجميع أنهم أصحاب حضارة وشهامة وسجل ثوري خالد، وسيكشفون للجميع رواغ تلك الأصوات والأوراق الابتزازية المحترقة التي لن تنطلي مرة أخرى على الأشقاء والأصدقاء أكاذيبها وخُدعها المصطنعة وقد شوهت الوجه النضير لليمن ورجاله، أبناء الإيمان والحكمة، وقد صورتهم أبواق العهد البائد أنهم إرهابيون ومتطرفون وقتلة ومصاصو دماء!!

*باحث في شئون النزاعات المسلحة والبيئة

زر الذهاب إلى الأعلى