آراءأرشيف الرأيالفكر والرأي

قانون الحصانة والضمانة في الفقه الجنائي الإسلامي

1
ما هو الفِقْهُ الجِنَائي الإسلامي ؟
بادئَ ذي بدء ، فإنه من نافلة القول ، واستحسان الفاتحة أنْ نقول أنَّ فلسفة الفقه الجنائي الإسلامي يقوم على الكلمات الثلاث المختصرة المذكورة في قوله تع إلى - وعزَّ من قائل : ( وَلَكُمْ فِيْ القِصَاصِ حَيَاة ) .. ولا يفهمُ هذه المعادلة ( القصاص = الحياة ) إلا أولي الألباب. ولا غرابة أن انتهت الآية بِ ' أولي الألباب ' القادرة على التدبُّر في معاني تلك المعادلة . *والقصاص هو جوهر نظرية ' العقوبة ' في الفقه الجنائي الإسلامي .*

يقول عزَّ من قائل :(وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ).

( ب ) :
والقصاصُ لغةً ( .. هو المساواة علي الإطلاق *. ومعناه أيضا التتبع ؛ ومنه قصص السابقين ؛ بمعنى أخبارهم . والقصاص مأخوذ من قص الأثر، وهو إتباعه ؛ ومنه القاص لأنه يتبع الآثار، والأخبار . وقص الشعر أثره، فكأن القاتل سلك طريقا من القتل ، فقص أثره فيها، ومشي علي سبيله فيها، ومن ذلك قوله تعالي(فارتدا علي آثارهما قصصا) . وقيل القص القطع، يقال قصصت ما بينهما، ومنه أخذ القصاص، لأنه يجرحه مثل جرحه، أو يقتله به، ويقال أفص الحاكم فلانا من فلان، وأباده به ، فأمتثل منه ، أي اقتص منه .

( ج ) :
الفقه الجنائي الإسلامي يمكن تعريفه على أنهُ مجموعة الإجتهادات التي تُحِدُّ من إنتشار الجريمة كظاهرة إجتماعية . *وهو من الجوهرية بمكانٍ في الشريعة كطابعٍ ديني لا شك فيه. وله - إلى طابعه الديني - طابعهُ الإجتماعي الذي أصَّلَ لهُ الفقهاء ؛ والحضاري كنظام متكامل يرعى مصالح الأمم كدين عالمي .

2
... وحين ذهب الفقهاءُ في التأصيل للفقه الجنائي الإسلامي ، جعلوا من عِلَّة التجريم ركناً أولياً أساسياً وإرهاصاً متينا تُبْنى عليه أبهُ جريمة ؛ إضافةً إلى بقية أركان الجريمة في التشريع الجنائي الإسلامي . *وعليه فقد أصَّلوا المصالح الخمس الكبرى تأسيساً لعِلَّة التجريم . وهذه المصالح هي التي تدور بدوائرها مبادئ القِوَامةِ للإنسان في أي مجتمع مدني في هذا العالم - على اختلافٍ في المسميات Titles - وهي : الدِّين ، والنَّفْس ، والعقل ، والنَّسل ، والمال . وبعضُ الفقهاء يطلق عليها مصطلح ' الكليات الخمس ' . ويصبح الفعل جديراً بالتَّجريم ، وبتعيين أركان الجريمة - من ثَمَّتَ ؛ متى ما أَخَلَّ بإحدى تلك المصالح . وذلك هو مُبتغَى الشَّارع ، والفقيه ، وما تقوم عليه مصالح الخلق في القِوَامةِ والإستدامة .

3
.. ثم انتقل الفقهاء لتحديد ما يُطْلَقُ عليه " نظرية ترجيح المصالح المتنازعة " التي بُنِيتْ على أساس الإختيار والتَّرجيح الأولى في رعاية أية مصلحة ليقدموها على مصلحةٍ أُخرى ؛ إعتماداً بالأساس على " نظرية الإباحة " القائلة بِ ' الأصلُ في الأشياءِ الإباحة ما لمْ يوجد دليل الحُرْمَة ' .

4
ومن هناك ...
إنتقلوا إلى تعريف الجريمة . ويمكن أنْ نسوقَ هذا التعريف الذي وضعوه على أنَّ الجريمة ( .. هي محظورٌ شَرعي بُنْيَةً وسلوك مُعَيَّناً يناقضُ أمراً نهى الله عنه أو تركاً أمرَ الله به ، قد زُجرَ عنه بِحَدٍّ أو قِصاصٍ أو تعزير ) . واعتمدوا في نظرية ' التجريم والعقاب ' على القرءآن ، والسُّنَّةِ الصحيحة ، والإجماع ، والقياس - كمصادر في تطبيق تلك النَّظرية . وقد إتفقُّوا على الثلاثة الأولى ، وتباينتْ إجتهاداتهم في الأخيرة : القياس !
وذلك يعني في النهاية الإجابة على السؤآل التالي : هل يجوز الإجتهاد قياساً في أسناد التجريم ؟ أو هل يمكن أن يجتهد الفقيهُ ويقيس في إقامة أسانيد الجريمة لإثباتها من عدمها ؟

5
.. فذهب الفقهاءُ ، والمُشَرِّعُون ، من ضمن ما ذهبوا إليه ؛ فأجمعوا في إشكالية القياس في التَّجريم والعقاب ' أنَّهُ لا يجوز القياس في جرائم الحدود ، ولا يجوز القياس في جرائم القصاص ، ويجوز في جرائم التعزيرات ' . ولخطورة جرائم الحدود ، والقصاص - الإعتداء العمدي على الحياة أو الجسم - فقد أهتم بها الشارعُ وتم تحديدها ، ونَصَّبها ونَصَّ في القرءآن أو السُّنَّة الصحيحة ، وحدَّدَ مقدار عقوبتها ؛ أعتباراً لأهميتها ، وترك ما عداها - وهي جرائم التعزيرات - للمُشَرِّع - الفقهاء والقضاة - ليجاهدوا باجتهاداتٍ آنِيَةٍ وقت الجريمة ، أو تكون الدساتير ، والقوانين المدنية ، قد وضعتها ضمنَ مصفوفات قوانين أعتمدها مجموع المُشَرِّعين - وغالباً ما يكون ' المحكمة الدُّستورية العليا .

6
.. وقد ذهب محمد إبن حبيب الماوردي في ' الأحكام السلطانية ' - وهو إجماع قدِ اتُّفِقَ عليه الفقهاء قبله وبعده إلى يومنا هذا - في نظرية " المساواة الجنائية في التجريم والعقاب " .. بمعنى أن يقوم التجريم والعقاب على مرتكبها حال إثباتها بدون النظر إلى الجنس ، أو اللون ، أو الدين، أو المركز الإجتماعي ، أو الوظيفة في حكومة الدولة .. إستدلالاً من الآية ( يَا أيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِنْ ذَكَرٍ وأنْثُى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبَاً وَقَبَائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ ) ؛ وحديث الرسول ( ص ) " النَّاسُ سَواسية كأسنان المشط .. " .. فقالوا بأنَّ لا حصانة *ألبتةَ ، ولا ضمان ألبتةَ - على التأكيد - حتى لرئيس الدولة ، في جرائم الحدود ، وجرائم القصاص ؛ ولا حصانة ، ولا ضمان - على الرأى المُرَجَّح - في جرائم التعزيرات .

7
ويبدو لي أنَّ الرسول قد عرف بشكلٍ صريح أنَّ ( الجريمَةَ هي عبارة عن سلوكٍ - الحانب المادي للجريمة - تسبقُهُ نِيَةٌ سيئةٌ - وهو الجانب المعنوي للجريمة ).. بقوله ( ص) " إنما الأعمالُ بالنيات وإنما لكل إمرئ ما نوى ). - وهو الإصرار والترصد الذي نسمعه وترددت دوماً .*

ولا يسقطُ بالتقادمِ إلا عقوبات التعزيرات . وقد إتفق الشافعي ومالك وأحمد وأبو حنيفة الذي إختلف معهم في أنهُ أجاز التقادم في جرائم الحدود - لا القصاص الذي إجتمع فيه حقُّ الله وحق العبد - عدا القذف !.. ولا يُعتبَرُ القياسُ ، وما دخل في الإستصحابِ والإستحسانِ والمصالح المرسلةِ وغيرها من القواعد الفقهية . فيما حدده الشارع في كتابه ونبيه في سنته الصحيحة عقاباً واضحاً لجرائم الحدود والقصاص إذا أقامها القضاء جريمةً مؤهلة للعقاب ؛ ما لم يعفو صاحب الحق ؛ حين تقوم الدِّيَّةُ وجوباً ؛ والتعزيرُ بديلاً جوازاً .

8
نظرية ' القصاص ' في القانون الدولي :
ويمكننا أنْ نتناولَ الآن نظرية َ ' القصاص ' على الصعيد الدولي . وهذا يُعْنَى بالسُّؤآل التالي : (هل يمكن إعمال القصاص بين الدول ، كما يُطَبَّق بين الأشخاص ؟
.. والذي تعارفَ عليه الناسُ في القانون الدولي العام ، أنَّ أشخاصهُ هي الدولُ ، والمنظمات الدولية ، *علي اختلاف بين الفقهاء في القانون الدولي، ولكن غالبَ الفقهِ الدولي يعتبر المنظمات الدولية من أشخاص القانون الدولي العام . *كما أنَّ غالبَ الفقهِ الدولي لا تقر باعتبار الأشخاص الطبيعيين من أشخاص القانون الدولي العام - حتى الآن .

ومِنَ المستقرِ عليه في نظريةِ القانونِ أنَّ كلَّ قانونٍ هو الذي يحددُ أشخاصَهُ المخاطبين بأحكامه *. وقواعد وأحكام القانون الدولي العام تناسب الدول والمنظمات الدولية.*يبدو منذ الوهلة الأولى إستحالةُ تطبيق القصاص ، في القانون الدولي العام على أشخاصه - الدول والمنظمات الدولية - ولكن بنظرةٍ متأنيةٍ فاحصةٍ ، تبدو المسألةُ في دائرةِ الممكن *، وليس في إطار المستحيل ، خاصةً وأنَّ قواعدَ المسئوليةِ الدوليةِ في القانونِ الدولي في تطورٍ مستمر . كما أنَّ القانونَ الدولي ذاته في توسعٍ ، *وتطورٍ مستمرٍ من حيث الفروع . *فقد شملت فروعه مجالاتٍ كثيرةً ، وأصبحَ الآن فرعٌ من فروعه يطلق عليه القانونُ الجنائي الدولي ، أو القانون الدولي الجنائي .

وبالنظر إلى طبيعةِ القانونِ الدولي العام - قواعداً وأحكاماً وأشخاصاً وآليات - قد يتعذرُ الحكمُ بالإعدامِ على الشخصِ مرتكبِ الفعل الموجب للقصاصِ ، وتبقى الدِّيَّةُ هي البديلُ الطبيعي لذلك . وهو ما أخذَ به أحكامُ المسئوليةِ في القانونِ الدولي المعاصر، تحت مسمى " التعويض المادي " . ويُعَدُّ هذا التعويضُ من قبيلِ الدِّيَّةِ ، إلا أنَّ الأمرَ يجبُ ألا يقتصرَ في كافة الحالاتِ على التعويض - عدا في حالةِِ استحالةِ تنفيذِ القصاصِ بالقتل ؛ حتى لا يفلت الجناةُ من العقاب ، خاصةً وأنَّ نتيجةَ أفعالهم عادةً ما تطولُ الكثيرَ من الناس ؛ وليكونَ ذلك رادعاً لهم ولغيرهم ؛ وشفاءً لصدورِ المجني عليهم .*

... وبعدَ تطورِ قواعد ، وأحكامِ المسئوليةِ الدولية ، ونشأةِ فرعِ القانون الدولي الجنائي - بقواعده وأحكامه - فضلاً عن انتشارِ القضاءِ الجنائي الدولي ، والقضاء الدولي ، بعد أنشاء المحكمة الدائمة للعدل الدولي في عهد عصبة الأمم عام1919 ؛ ثم محكمة العدل الدولية في ميثاق الأمم المتحدة عام 1945؛ وأخيراً المحكمة الجنائية الدولية عام 2002 ؛ وإنشاء العديد من المحاكم الخاصة ؛ ثم محكمة مجرمي الحرب العالمية الثانية 1945 ، ومحاكم نورمبرج ، ومحاكم مجرمي يوغوسلافيا ورورندا ... أخذتِ الصورةُ العامةُ للقانونِ الدولي ملامحَ فيها من الحواجبِ الغاضبةِ قوةً ، وصرامةً ، وعنفوانا . *وهو ما يرعب الرئيسَ حقاً ، ويجعلُ أركانَ نظامهِ في حالةِ إسهالٍ شديد .
*
.. إذن رأينا أنَّ نظامَ المسئوليةِ الدوليةِ - في القانون الدولي العام - إنْ لم يأخذ بالقصاصِ - كمصطلح *إسلامي محض وصريح الكلمة - إلا أنهُ أخذَ بهِ كمضمونٍ في التعويضِ عنِ الأفعالِ التي تشكلُ جرائمَ دوليةً في القانون الدولي العام.

ومن هنا نرى أنَّ مشروع العدالة الإنتقالية الذي يتكلم عنه الناس اليوم ، هو المخرج الوحيد والمتاح للرئيس وأركان فساده الذي يضمن وقوفه أمام عدل الله والناس والمجتمع الدولي . ويبقى أولئك في كل الأحوال في موقف صعبٍ هم مَنْ وضعوا أنفسهم فيه .
وشكراً لشباب الثورة حين أجبروه على توقيع الأتفاقية ؛ وشكراً لهم على إسقاط الحصانة والضمانة المطلقة .. وهو انتصارهم الثالث !
وما زلتُ أنتظر الباقي.*

وللحديث بقية حول العدالة الإنتقالية وأدوات الولاية المُدَوَّلَة في موضوع واحد قادم إن شاء الله .

عبدالكريم عبدالله عبدالوهاب نعمان .
مهندس معماري واستشاري .
فرچينيا - الولايات المتحدة الإمريكية .
حزب البسباس - قسم الفصة الجنائي الإسلامي
مكتب الحصانة والضمانة .
في 19 يناير 2012

زر الذهاب إلى الأعلى