«أعرف أن هذا القانون سيعرضني للشتم وأن وقوفي في هذا المكان قد يضر بسمعتي»، وأضاف وهو يجهش بالبكاء: «لكني مستعد أن أضحي من أجل الوطن وأدفع حياتي ثمناً لإخراج الوطن إلى بر الأمان»..
هذا ما قاله الأستاذ محمد سالم باسندوة - رئيس حكومة الوفاق الوطني - أمام البرلمان في جلسة حضرتها الحكومة لتقديم قانون منح الحصانة لصالح وأعوانه، وأجهش باسندوة بالبكاء خوفاً على الوطن من المخاطر التي تحدق به وستعرضه «للتفكك والتمزق والانفصال» وأثناء مناشدته النواب للوقوف أمام هذه المخاطر والخروج بالوطن منها وألا يتحول الوطن إلى الصومال أو أفغانستان، وهذه هي المرة الثانية التي يبكي فيها الأستاذ محمد سالم باسندوة أمام عدسات الكاميرا وينقل مشهد تساقط دموع باسندوة ليشاهده ملايين البشر في الداخل والخارج في لقطتين تعبران عن شفافية الرجل وعمق إحساسه وحبه للوطن وإيمانه العميق بالمدنية والسلوك الحضاري، وهو الذي تعرض للشتم والتجريح وحتى للطعن بيمنيته من قبل حاقدين على الوطن وقبل ذلك حاقدين على أنفسهم.
أعرف أن شخصاً شفافاً مثل باسندوة سيقول لهم: سامحكم الله، ولن يسمح نفسه أو لمن يحبه بالبحث عن أصولهم وفصولهم، والرد عليهم، أو حتى لمحاسبتهم، مقتدياً بموقف أشرف الخلق عليه وعلى آله وأصحابه أزكى الصلاة والتسليم عندما قابل إساءة قومه في مكة له بعد فتح مكة بالكرم والجود، فمنحهم الغنائم، وقال لهم: اذهبوا فأنتم الطلقاء، ولأن باسندوة لا غنائم له وقد قرأنا أنه ذهب إلى مجلس الوزراء بعد قرار تكليفه بتشكيل حكومة الوفاق الوطني بسيارة قديمة وأنه يحمل تلفون سيار قديم وهو رجل متقشف بطبيعته كما سعمت، فسيقول لشاتميه: اذهبوا سامحكم الله.
وقد بدأ رئيس حكومة الوفاق الوطني الأستاذ محمد سالم باسندوة بالتقشف بنفسه وثم وجه حكومته بالتقشف، وقرأنا أن وزراء حكومته لن يصرف لهم سيارات فارهة، وسيتم شراء سيارات صغيرة متواضعة، لمن لا يوجد معه سيارة أو دخل الوزارة لأول مرة، ونتمنى ألا يصرف سيارات لمن كانوا وزراء في الحكومة السابقة باعتبار أن الحكومة السابقة قد صرفت لهم سيارات، وإن شاء الله ما يقرأون هذا وما يشتمونا مثل ما شتم الأستاذ باسندوة، ولا ينزعون عني يمنيتي، لمجرد أني كتبت بألا يصرفوا لهم سيارات طالما وهم كانوا وزراء سابقين، فأنا لا أعرف الرجل، غير عبر شاشة التلفزيون وللمرة الثانية أشاهد دموعه تنهمر من أجل الوطن، وخوفاً على تفكك وتمزق الوطن، ويعلنها صراحة بأنه مستعد للتضحية من أجل الوطن، وكنت قد سمعته مرة يتكلم في شاشة التلفاز عندما تم تهديده بأنه لا يخاف إلا من الذي خلقه، ولكني أعرف الكثير ممن ولدوا وتربوا وعاشوا في عدن الحب والجمال، عدن التسامح والطيبة، عدن العناق الأبدي بين الجبل والبحر، عدن نسائم البحر الندية، عدن التي تعايش فيها الناس من مختلف المناطق وعاشت بها مختلف المذاهب والديانات: مسلمون ومسيحيون ويهود وبينيان وفرس.. إلخ.. تعايشوا في أجواء مدينة هادئة وفي تآلف مدني غير معهود، ربما للبحر دور في ذلك، وربما لطبيعة المدينة التجارية دور، وربما بفعل نسائم البحر، حتى الذين يأتون إلى عدن من الجبال والمناطق الأكثر تخلفاً ويحملون موروثات القبيلة السيئة وأكرر السيئة من ثأر ووحشية وعنجهية وهنجمة ونخيط، وتمنطق بالسلاح والمرافقين، وإطلاق الرصاص لأتفه الأسباب، تصبح قلوبهم رطبة بمجرد أن يستقروا في عدن ويتعايشوا مع سكانها ويشموا عبيرها الفواح وتبللهم نسائم بحرها، وينعشون أجسادهم في ماء بحرها الصافي، وربما بفعل مدنية المدينة وطيبة أهلها وتسامحهم.
وباسندوة عاش وترعرع في هذه المدينة التي تنعكس طباعها في أهلها، حتى وإن غادروها، وباسندوة غادرها في الستينيات إلى شمال الوطن نتيجة للصراعات التي وصلت حد الاقتتال بين الإخوة ورفاق الدرب والنضال لطرد المستعمر البريطاني بعد الحرب الأهلية بين الجبهتين القومية والتحرير، ولهذا فهو قد اكتوى بنيران تلك الحرب وبكل تأكيد فقد أعزاء وأصدقاء ومناضلين، وأيضاً اكتوى بفعل الحروب بين الشطرين سابقاً، وأخيراً أكتوى بحرب صيف 94م المشؤومة، ولذلك فهو يدرك تماماً مآسي الحروب وويلاتها، ولأن قلبه أبيض وصاف ورجل بطبعه شفاف تنهمر دموعه غصباً عنه وبتلقائية وليس تصنعاً، وهي تعبير عن شجاعة الرجل وقوته؛ لأن الكثير يعتبر دموع الرجل ضعفاً أمام أخيه الرجل، فما بالنا عندما تكون دموع رئيس وزراء وأمام عدسة الكاميرات ويشاهدها الملايين في الداخل والخارج، ترى ماذا سيقال عنها، أبداً والله إنها تعبير صادق عن صدق الرجل وشفافيته وقوته، وليس ضعفه، باسندوة رجل قوي وصادق، لكنها - وهذا الأهم - تعبير عن مدنية الرجل وبيئته المدنية التي عاش فيها ويؤمن بها من المهد إلى اللحد.
وأخيراً يعلم علماء النفس والطب السلوكي أن البكائين أكثر الناس طيبة وشفافية، قلوبهم صافية ورطبة وندية، وتفيض إنسانية وحناناً، وهم عاطفيون محبون لأوطانهم ومن حولهم، ولا يحملون الحقد لأي إنسان أساء إليهم، صرحاء حد التأليم فيما يتعلق بقضايا الوطن والأخلاق والفضائل، والأستاذ محمد سالم باسندوة ينطبق عليه ذلك، لذلك فهو صادق عندما يبكي من أجل الوطن، قوي عندما يبكي من أجل الوطن، وليس ضعيفاً كما قد يفسر البعض، وهم أصحاب القلوب المتحجرة، والطبائع المتوحشة، ومن لا يعرفون ولا يعترفون ولن يعترفوا بالسلوك المدني ولا بالمدنية.