تبدو أمتنا العربية كما لو أنها في حلم وهي تحتفل قبل أسابيع قليلة بالعيد الأول للثورة التونسية وتحتفل قبل ثلاثة أيام بالعيد الأول للثورة المصرية فيما يحتفل اليمنيون بالذكرى الأولى لانطلاق ثورتهم الشعبية في 15 يناير الماضي بينما يستعد الشعب الليبي بعد أيام عديدة للاحتفال بعيد ثورته التي أسقطت أحد أعتى الأنظمة الاستبدادية في العالم...
وحتى مطلع عام 2011م لم يكن أكثر المتفائلين بقدرة أمتنا على التحرر من أنظمة الفساد والاستبداد يتصور أنه يمكن أن يشهد تجسيد هذه القدرة خلال العام نفسه، لكن الأنظمة البوليسية هذه بدأت تتهاوى الواحد تلو الآخر بأثمان متفاوتة وبنهايات مختلفة... لكن يبقى للثورة المصرية فرادتها ونكهتها المميزة ربما لأنها حدثت في البلد الأهم والأكبر في الوطن العربي الذي تجسدت فيه هيبة الدولة وسطوتها على امتداد تاريخ طويل يمتد بحسب الكثير من المؤرخين لآلاف السنين.
احتفل المصريون يوم 25 يناير الجاري بالذكرى الأولى لانطلاق ثورتهم ضد نظام الرئيس السابق حسني مبارك، حيث كانت الصدمة لازالت تعم الوطن العربي كله من النهاية المفاجئة والغريبة لثلاثة وعشرين عاما متواصلة من حكم الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي الذي كان معروفا بقبضته البوليسية القوية... وعندما خرج الشباب المصري في 25 يناير 2011م كانوا يسعون لتحقيق ذات الإنجاز الذي حققه إخوانهم التونسيين لكنهم كانوا يدركون أن مهمتهم ستكون أكثر صعوبة وتعقيدا وكلفة، وكان أكثر المراقبين تفاؤلا لا يستطيع أن يقرر ما إذا كان الشباب المصري سيتمكن من إنجاز هذا الهدف... إلا أن الإرادة الحديدية التي تسلح بها شباب مصر أصبحت حالة ملهمة للشعب المصري أولا وللشعوب العربية تاليا التي ظلت أنظارها مشدودة مع القنوات الفضائية على مدار الساعة تتابع ما يحدث وهي مندهشة، فيما المؤسسة الأمنية الأضخم والمشهورة بسطوتها في الدولة العريقة تتهاوى أمام إرادة جبارة لشباب مصر وهم يقاومونها من أجل أن يحصلوا على حريتهم المسلوبة وينهوا حالة الخوف من هذه السطوة التي طالما أذلت الشعب المصري وسحقت كرامته.
ثمانية عشر يوما من الصمود والإصرار على تحقيق هدف إسقاط حكم الرئيس حسني مبارك جعلت القوات المسلحة المصرية تنحاز إلى شعبها في صفقة سياسية واضحة قريبة إلى حد ما من الصفقة التي حصلت قبل ذلك في تونس التي حسم جيشها موقفه إلى جانب الشعب التونسي وطلب من الرئيس بن علي مغادرة البلاد ففر هذا الأخير إلى المملكة العربية السعودية التي وفرت له الملجأ وغاب عن الأنظار منذ ذلك الحين... وفي مصر تكررت الصفقة بين الرئيس والجيش بحيث يتنحى الأول عن الحكم ويقيم في مصر مقابل أن يلتزم الثاني بضمان حماية مبارك والحيلولة دون محاكمته... ذهب الرئيس السابق شعبيا والمتنحي شكليا إلى بيته في منتجع شرم الشيخ وطوى صفحة ثلاثين عاما من السلطة المطلقة في أكبر بلد عربي بعد أن كان على وشك أن يورث حكمه لابنه رسميا وبعد أن كان مبارك الإبن يدير الحكم فعليا خلال السنوات السبع الأخيرة مع تقدم عمر مبارك الأب وغزو الأمراض لجسده... وهكذا دخل الشعب المصري في مرحلة جديدة كل الجدة مقارنة بما كان يعيشه في السابق، فلأول مرة يتنفس عبق الحرية ويستمتع بنسائمها دون خوف، ونجح شباب مصر في الحفاظ على حيويتهم على امتداد عام كامل فقد أسقطوا حكومة أحمد شفيق وأجبروا المجلس العسكري الحاكم على التخلي عن تعهده لمبارك بعدم محاكمته... وهكذا شاهد الشعب المصري ومعه العالم كله أول رئيس عربي يحاكم علنا بإرادة شعبية، وظلت إرادة شباب مصر متوقدة فضغطوا على حكومة عصام شرف حتى أجبروه على الاستقالة رغم أنه محسوب على الثورة، وأجبروا المجلس العسكري على سرعة إجراء الانتخابات البرلمانية ونقل بعض من صلاحياته الدستورية إلى رئيس الحكومة... ولولا هذه الإرادة القوية لربما تغول المجلس العسكري وقرر التمديد لنفسه على سدة الحكم أكثر من المدة المقررة.
ورغم كل الضغوط التي يمارسها الشباب المصري من أجل نقل السلطة لرئيس مدني فإن المجلس العسكري لازال مصمما على أن هذا الأمر لن يتم قبل شهر يونيو القادم أي عقب إجراء الانتخابات الرئاسية... ولا يبدو هناك أي تفسير لهذه المماطلة غير المبررة سوى إعطاء الوقت الكافي للانتهاء من إجراءات محاكمة الرئيس السابق حسني مبارك بحيث تستكمل هذه الإجراءات قبل تسليم السلطة للمدنيين، وإن صح هذا التفسير فإنه يعني ضرورة وسرعة البحث عن مخرج مقبول من هذه المحاكمة إما بتخفيف الحكم الذي سيصدر على الرئيس السابق أو إصدار عفو عنه أو أي شيء من هذا القبيل يجعل الجيش المصري يحافظ على وعده للرجل وعدم المساس به باعتباره أحد قادة الجيش وأحد رموز حرب أكتوبر في ذات الوقت.
وقبل يومين من الاحتفال بالذكرى الأولى للثورة الشعبية كان أعضاء مجلس الشعب المنتخب لأول مرة بإرادة حرة ونزاهة كاملة منذ عقود طويلة يؤدون اليمين الدستورية وينتخبون أمين عام حزب الحرية والعدالة الإخواني محمد سعد الكتاتني رئيسا للسلطة التشريعية في البلد العربي الأهم... فقد أسفرت الانتخابات التشريعية عن فوز التحالف الديمقراطي لعشرة أحزاب (إسلامية وقومية وعلمانية) بقيادة حزب الحرية والعدالة (الإخوان المسلمون) بأكثر من 40% من مقاعد البرلمان الجديد فيما تمثلت المفاجأة بحصول التيار السلفي على ما يقارب 25% من المقاعد... وهكذا وجدت مصر نفسها لأول مرة في قبضة الإسلاميين الذين أصبح من حقهم تشكيل الحكومة كما فعل أقرانهم في تونس والمغرب، مع فارق أن أمرا كهذا يحدث في مصر سيترك آثارا كبرى على المنطقة بأكملها فيما تأثيراته في تونس والمغرب لن تتعدى حدود البلدين... وهذا ما يدفعنا لطرح العديد من التساؤلات عما إذا كانت الانتخابات الرئاسية ستأتي برئيس من التيار الإسلامي؟ وعما إذا كان اكتساح الإسلاميين للانتخابات التشريعية في بلدان الربيع العربي سيشجع شعوبا عربية أخرى للتحرك ضد أنظمتها أم ستفضل القبول بالأمر الواقع؟ وإلى متى يمكن أن تستمر هذه الأغلبيات الإسلامية؟ وهل سينجح الإسلاميون في تقديم حلول للمشكلات المتجذرة في بلدانهم؟ وهل يمكن أن تطيح بهم يوما ما ثورات شعبية أخرى؟ تساؤلات ستظل تبحث عن إجابة...