الخرافة الأولى: لا يوجد قبائل في الجنوب
لديّ صديق عزيز من المحافظات الجنوبية مقيم حالياً في واشنطن، في غاية التهذيب ودماثة الأخلاق، وهو بالمناسبة من أشد المتحمسين لمشروع فك الارتباط، بعد أن كان أول من ظهر في تلفزيون صنعاء بعد حرب 1994 يؤيد نتائج الحرب التي عارضها كاتب هذا المقال بشدة، وامتنع عن العودة إلى اليمن حتى يومنا هذا بسبب ذلك.
ولكن هذا لم يمنعني من التعاون والتعامل مع الصديق القادم من عدن في كل مرة يأتي فيها إلى واشنطن، ولم يجد ما يمنعه من التعاون والتعامل معي، وقد تحاورنا خلال لقاءات وجاهية أحياناً، وعبر الهاتف أغلب الأحيان في كل القضايا التي نتفق حولها وما أكثرها! وحول القضايا التي نختلف بشأنها وما أكثرها!.
لم يزعجني أبداً أن استمع إلى آرائه المناقضة جذرياً لآرائي، كما لم ألحظ عليه أي انزعاج من جانبه عندما يسمع مني رأياً مختلفاً مهما كان هذا الرأي مجافياً لقناعاته. المرة الوحيدة التي تضايقت منه فعلاً وأشعرته بضيقي كانت عندما وجدته يدمج بين رأي شخصي وحقيقة علمية وكأنهما شيء واحد، حيث قال: “نحن في الجنوب لا يوجد عندنا قبائل...” هذا التصريح أدهشني؛ لأني كنت انتهيت لتوي من كتابة بحث مطول عن قبائل المحافظات الجنوبية، واطلعت على عدد كبير من المراجع والكتب عن تقسيمات وأماكن وجود القبائل الحالية (وليس المندثرة).
وعندما تأكد لي أن المنكر لوجود قبائل ليس سوى واحد من عشرات غيره من قادة فك الارتباط ممن أقنعوا أنفسهم ويحاولون إقناع غيرهم بهذه الخرافة، فما كان مني إلا أن قلت: أبشري بطول سلامة أيتها الوحدة الظالمة ومددي ولا تبالي.
فلهذا السبب تفوّق علي عبدالله صالح على خصومه الاشتراكيين عام 1994؛ لأن صالح لم يدرس في السوربورن، ولكنه - على ما يبدو - كان على معرفة بجغرافية وتاريخ القبائل اليمنية في الشمال والجنوب على حد سواء، في حين أن نظيره البيض كان ينكر وجود قبائل في المحافظات الجنوبية من الأساس، مثلما أنكر وجود “أنصار الشريعة” لاحقاً، ويحاول الآن أن يعرض على المجتمع الدولي التعاون للقضاء عليهم، في حين أن المجتمع الدولي أصلاً قد شطبه من قائمة القادة بسبب إنكاره لوجود أنصار الشريعة، وربما أن البيض وأتباعه يعتقدون أن إنكار وجود القبائل سوف يمحو تلك القبائل من الوجود.
الرد التاريخي
كتب الشيخ الشاب علوي الباشا بن زبع في إحدى مقالاته عن القبائل اليمنية أن قبائل حضرموت تعود معظمها إلى قبيلة كندة العربية التاريخية، أما بقية قبائل المحافظات الجنوبية في المحافظات الأخرى فإنها تلتقي تاريخياً في حمير، ويخالف بعض الباحثين الباشا بن زبع في استنتاجه بقولهم: إن معظم قبائل المحافظات الجنوبية تنتمي إلى مذحج القبيلة الكبرى التي لها امتداد واسع أيضاً في المحافظات الشمالية، وتشمل قبائل مراد وعنس وقيفة والحدا وبعدان وشرعب، إضافة إلى قبائل عله في أبين.
ويفسر البعض تعاظم التفاخر لدى بعض قبائل وأفراد المحافظات الجنوبية بانتمائهم إلى حمير ومحاولة نفي الانتماء إلى مذحج بأنه أسلوب متجدد إلى نفي أي ارتباط أو علاقة بالشمال من أي نوع، أما حمير فإن منشأها كان في الجنوب وامتدت سلطاتها إلى أراضٍ واسعة في شمال الوطن وصلت حتى عمران شمالي صنعاء، ولهذا فإن إحياء الانتماء لحمير بمثابة إحياء الانتماء المستقل للجنوب بعيداً عن الشمال أو تذكيراً بسيطرة الجنوب على الشمال وليس العكس.
وكان الشعور بالانتماء القبلي في الجنوب زمن الاستعمار قوياً وملحوظاً بدرجة رئيسة في أوساط أفراد الجيش والأمن قبل الاستقلال، حيث كان الاكتتاب للعسكريين يتم حسب (كوته) اعتمدتها بريطانيا للحفاظ على التوازن القبلي داخل القوات المسلحة والشرطة، ولكن الجبهة القومية والحزب الاشتراكي فيما بعد عملا على كبت الانتماء القبلي دون التمكن من قلع عروقه المتجذرة في النفوس، وكان بعض الرفاق يلومون الشهيد علي أحمد ناصر البيشي الشاعري الملقب “عنتر” بأنه يفهم في شؤون القبائل أكثر من فهمه للاشتراكية العلمية، فيرد عليهم قائلاً: “من أهم مبادئ الاشتراكية العلمية أن تفهم المجتمع الذي تعيش فيه، ولهذا فأنا أفهم الاشتراكية أكثر من كل هؤلاء المنظرين”.
ويعتقد كثير من المحللين أن المحاولات بالبحث عن الجذور والانتماءات القبلية ظهرت مؤخراً كنوع من الاحتماء بالهوية “الجنوبية” نتيجة ما تعرض له أبناء المحافظات الجنوبية على يد سلطة 7 يوليو من ظلم وإقصاء، ومن نهب لأراضيهم، واستيلاء على ثرواتهم، ومن تسريح من أعمالهم، وما يتعرضون له من تمييز، وأيضاً من اضطهاد وقمع لنضالهم السلمي.. ومن مصادرة لحقوقهم السياسية والمدنية، ونتيجة للشعور الذي سادهم بضياع المنجزات التي كانوا يتمتعون بها من أمن واستقرار وسيادة للدولة والقانون، وفرض الأنظمة القبلية ونظام ما قبل الدولة الذي كان سائداً في الجمهورية العربية اليمنية على المجتمع في المحافظات الجنوبية المتعود على وجود الدولة واحترامها والخضوع لأنظمتها وقوانينها.
كل هذا والمصحوب بنزعة استعلائية تقلل وتحط من شأن “الجنوبي”، وتنكر عليه المواطنة المتساوية، وتحكم عليه بالقهر والإذلال لا شك وأنه أذكى ويذكي النزعة الجنوبية للاحتماء بالهوية إزاء ما يتعرض له.
ومن المعروف أن النظام هو من أحيا هذه النزعة وبعثها من العدم بسلوكه وممارساته الطائفية والقبلية، لهذا فإن إحياء الانتماء لحمير أو لمذحج أو لكندة هو رد فعل لدى البعض إزاء نهج السلطة وسلوكها.. ويصب من حيث لا يدري أصحابه في مشروعها للإبقاء على اليمن متخلفة تحكم بالقبيلة والعشيرة بدلاً من بناء دولة عصرية ومجتمع مدني.
ومع الأسف إن عدداً كبيراً من رموز القبيلة في اليمن كانوا يتقاسمون السلطة مع الأسر الحاكمة، في حين أن البقية في المحافظات الشمالية ظلوا تابعين وخاضعين لهيمنة من لا يطبق عليهم النظام والقانون الذين أصبحوا فوق الدولة أو دولة داخل الدولة.
والحقيقة أن تأثير القبيلة في المحافظات الجنوبية كان في طريقه إلى الاضمحلال، ولم تكن بنية سياسية واقتصادية واجتماعية متماسكة كما هو الحال في المحافظات الشمالية، وكان الانتماء للدولة والخضوع لسلطة النظام والقانون أهم سمات القبيلة فيه، لم يكن للمشائخ مثل تلك السلطة والنفوذ اللذين للمشائخ في المحافظات الشمالية، وكان هذا من أحد أهم الأسباب لأن تبسط الدولة سلطتها على كافة المناطق حتى دون وجود للجيش أو الشرطة، ماعدا السلطة المعنوية للدولة وهيبتها التي هي موضع احترام الجميع، والفضل في ذلك يعود إلى بريطانيا التي دجنت القبيلة في الجنوب خلال احتلالها الطويل له، وحولت العديد منها من مجتمع قبلي إلى مجتمع زراعي، ومن ثم إلى شبه مجتمع مدني يخضع لسلطة الدولة وللنظام والقانون، أولاً بواسطة القوة، وثانياً بواسطة المصلحة وتبيان أفضلية الأمن والاستقرار على الحروب والنزاعات القبلية.
ويمكن أن نجد في هذا الإرث (الاستعماري) جانباً إيجابياً تاريخياً علينا الاعتراف به مهما كانت مساوئ الاستعمار الأخرى، بالإضافة إلى النظم الإدارية الحديثة، والأنظمة المالية، والمصارف والعملة ونظام الاتصالات والجيش والأمن، والتعليم وسواها من مستلزمات الدولة، مما سهل التوافق بين مفهوم الدولة والمجتمع في المحافظات الجنوبية، ومكن الثورة من إقامة دولة قوية مهابة داخلياً وإقليمياً وعلى المستوى الدولي.
لكن هذا لا ينفي أنه لم تكن توجد رواسب اجتماعية من الماضي وانشدادات قبلية ومناطقية لعبت دورها في النزاعات الداخلية في الجنوب خلال الأزمات السياسية، وحاولت سلطة 7 يوليو إحياءها في الجنوب على طريقة سياسة (فرق تسد).
ومع الأسف أنه بعد الوحدة وبعد حرب 1994م بدأ بعض الرفاق الذين درسوا في البلدان الاشتراكية وغيرها يتنكرون حتى لكلمة رفيق، والبعض منهم يفضل كلمة شيخ، والهدف هو الجاه والمال اللذين يحصلان عليهما من مصلحة شؤون القبائل، وقد جرى تجنيد عدد كبير من الموالين للمشايخ ليتحول بعضهم إلى مرافقين ويعدون بالآلاف، وهم قوة عاطلة عن العمل، بينما الخريجون من الجامعات والمعاهد لا يحصلون على العمل.