تبدو مصر في حالة مخاض مستمر، وهي على مشارف مرور عام على تنحي الرئيس السابق حسني مبارك، إذ تبدو صورة الأوضاع فيها كما كانت تقريبا في اليوم التالي لتسلم المجلس العسكري لمهام إدارة البلاد، مع اختلاف وحيد يتمثل في وجود سلطة تشريعية منتخبة، أو بالأحرى ثلثي سلطة تشريعية هي مجلس الشعب، إذا أخذنا في الاعتبار الثلث المتبقي المتمثل في مجلس الشورى، الذي بدأت انتخاباته قبل أيام في غياب التفاعل الشعبي الكافي، والذي تبدو سلطاته شكلية إلى حد كبير مقارنة بمجلس الشعب.
ورغم أن حزب الحرية والعدالة (الإخوان المسلمون) وحلفاءه حصدوا حوالي 45% من مقاعد مجلس الشعب، إضافة إلى 25% حصدها السلفيون، في سابقة هي الأولى من نوعها في الوطن العربي بأكمله، فإن ذلك لم يترك أي بصمات فورية على الحياة العامة في مصر، ولا يبدو أنه سيترك بصمات كبيرة على المدى القريب أو المنظور. وقد لا تجسد هذه الأغلبية الكبيرة التي حصدها التيار الإسلامي، بشقيه الإخواني والسلفي، نبض الشارع المصري الفعلي أو حقيقة ثقلهما فيه، بقدر ما تعبر عن خطورة الفراغ الذي تتركه الأنظمة المستبدة بأحزابها الوهمية المتضخمة حال سقوطها، والتي كانت تجعل منها مجرد أداة لتمرير رغباتها ورؤاها وتوجهاتها (كالحزب الوطني في مصر والتجمع الدستوري في تونس، وإلى حد ما اللجان الشعبية في ليبيا.
ونرجو ألا يحدث للمؤتمر الشعبي العام في اليمن)، وهو فراغ تكون التيارات الإسلامية المضطهدة هي الأقرب والأوفر حظا لملئه، في غياب قوى ليبرالية معتدلة يمكن أن تسهم في سد الفراغ، من خلال تمثيلها لفئات عريضة في هذه المجتمعات لم تستطع تنظيم نفسها بسبب كثرة خلافاتها ذات الطابع الفكري والذاتي، وكذلك خلافاتها حول أولويات المرحلة القادمة، ورفضها الاعتراف بالتيارات الإسلامية وإمكانية استيعابها ضمن مكونات الحياة السياسية.
ما زال المخاض العسير في اتجاه ولادة النظام الجديد في مصر، قائما بقوة.. فالدولة المدنية العريقة تبدو واضحة المعالم في هذا البلد، ولن يحتاج لوقت طويل لاستعادة وضعيتها الكاملة في حال تسلم السلطة كاملة فيه حكام مدنيون وعاد العسكر لثكناتهم... لكن العسكر لا يبدو أنهم على ثقة كاملة بقدرة المدنيين على إدارة السلطة، بعد ستين عاما على قيادتهم المستمرة أي العسكريين للحكم منذ ثورة 23 يوليو 1952.
ولعل هذا أحد أسباب مماطلتهم الظاهرة في سرعة تسليم السلطة للمدنيين، رغم عمق المطالب الشعبية بإنجاز ذلك في أسرع وقت. وحصول الإسلاميين على تلك الأغلبية الكبيرة في مجلس الشعب، قد يسبب المزيد من القلق لدى المجلس العسكري الحاكم، ويجعله يبحث عن سبيل للخروج من هذه الأزمة، يجمع بين الوفاء بالتزامه تسليم السلطة للمدنيين والحفاظ على قدر كبير من تأثيره على القرار، وتجنيب البلاد ما يعتبره مخاطر هيمنة كاملة للإسلاميين على كل جوانب الحكم والتأثير في البلاد، وهي بلا شك معادلة صعبة جدا قد تطيل أمد المخاض القائم، الذي يبرز العديد من جوانب التعقيد فيه كل يوم.
وتتداخل مظاهره بشكل غريب، من المواجهات السياسية التي يعبر عنها العديد من مليونيات التحرير المتعاقبة، إلى مواجهات كرة القدم التي عبرت عن نفسها الأسبوع الماضي عبر مذبحة بورسعيد البشعة، التي ذهب ضحيتها أكثر من سبعين شخصا وتسببت في إرباك كل القوى السياسية ووضعها في زاوية حرجة، بدءا من المجلس العسكري الحاكم، مرورا بحكومته التي يرأسها الاقتصادي والسياسي المخضرم كمال الجنزوري، وانتهاء بالسلطة التشريعية المنتخبة وأغلبيتها الإخوانية، التي بدت عاجزة عن تبني قرارات حاسمة، في مواجهة تداعيات المذبحة وانعكاساتها الأهلية الخطيرة على استقرار المجتمع المصري وسلمه الاجتماعي!
وهنا يبرز كثير من التساؤلات حول ما إذا كان التسريع بتسليم السلطة للمدنيين عبر انتخابات رئاسية عاجلة، أو من خلال مجلس حكم مدني مؤقت يتولى كذلك إعداد البلاد للانتخابات الرئاسية، سيكون حلا للإشكاليات القائمة وسيعطي العسكريين ومجلسهم الحاكم الشعور بالأمان، ويجنبهم أي ملاحقات قضائية من أي نوع، نتيجة المواجهات المتعددة التي حدثت خلال العام الماضي وسقط بسببها عشرات الضحايا، وجعلت غالبية المصريين يعتبرون أن نظام مبارك ما زال قائما من الناحية الفعلية، حتى وإن كان مبارك نفسه قيد الإقامة الجبرية والمحاكمة..
والأكيد أنه كلما طال أمد بقاء المجلس العسكري في الحكم، ازدادت المشكلات وتعمقت، وبدا كما لو أنه أصبح العدو الأساسي للشعب المصري، عكس ما كان عليه قبل عام واحد عندما هلل المصريون لتنحي مبارك وتسلم المجلس العسكري للحكم، معتبرين أنه يمثل الخلاص الحقيقي لهم. لكنهم مع مرور الوقت اكتشفوا أن مطالبهم في محاكمة مبارك وأعمدة حكمه وتعديل الدستور وإنجاز القوانين الانتخابية والتعجيل بالانتخابات، كلها كانت تتطلب مليونيات لممارسة الضغوط على المجلس العسكري لإنجازها، ناهيك عما تسببته المواجهات التي خاضتها قوات الجيش عدة مرات مع المحتجين.
وتسببت في سقوط ضحايا وخلق قدر من العداء ضده، كان الجيش في غنى عنه باعتبار صورته ظلت زاهية على الدوام لدى أبناء الشعب المصري، بسبب ابتعاد قوات الجيش عادة طوال العقود الماضية عن الاحتكاك بالمواطنين مما جعل صورته إيجابية على الدوام، وتقبلهم لتحمله المسؤولية عقب تنحي مبارك..
وهكذا يجد الجميع في مصر أنفسهم أمام استحقاقات صعبة، فالمجلس العسكري لم يعد أمامه مفر من الإسراع في تسليم السلطة للمدنيين والعودة إلى ثكناته، لكنه لن يفعل إذا لم تتوفر له ضمانات بعدم ملاحقة قادته بسبب مجريات الأحداث التي جرت في الشهور الأخيرة.. وبالمثل يجد المدنيون أنفسهم في مأزق استلامهم للحكم، في ظل انهيار الجهاز الأمني وابتعاد الجيش عن المشهد. وهذا يستدعي سرعة استعادة الجهاز الأمني لقوته وهيبته.
وفي الإطار المدني نفسه سيجد الإسلاميون الحاصلون على الأغلبية أنفسهم وجها لوجه مع مجتمع ثار ضد الاستبداد والفساد، بحثا عن العدالة والحرية والفرص المتساوية والاستقرار المعيشي، وهي أمور ما زالت تبدو بعيدة المنال في ظل حالة الاضطراب الأمني القائمة، وعزوف الدول المانحة عربية وغربية عن تقديم المساعدات الكافية لمصر لاستعادة استقرارها الاقتصادي. وهذا كله قد يقود في المرحلة القادمة، إلى مواجهات بين الشارع الذي ما زال يعيش حماس الثورة، والحكم المدني الذي لم تتضح معالمه بعد، ولا يمكن التنبؤ بدقة حول شكله القادم وأدواته ورؤاه وأولوياته التي سيحملها معه.