_ 1_
الفكرة الثورية لا يجب أن تنتصر بالعنف ..
لم يدرك نظام علي صالح أن ما يسمى "الإنتصار" الذي حققه في حرب 1994 على الجنوب كان بداية نهايته ، تماماً مثلما كان هزيمة للوحدة السلمية الطوعية. وكثير من الإنتصارات في حروب الأمم ، قديمها وحديثها ، كانت بمثابة نقطة تحول نحو الهزيمة النهائية في مسار المنتصر.
الحروب تضخم الأشخاص على حساب" الفكرة " التي يحاربون، أو يدعون، أنهم يحاربون من أجلها. تصغر "الفكرة"، بل وتتلاشى، وتتضخم الشخصية. وفي الغالب تتلاشى "الفكرة " بتغيير جوهرها وخاصة الأفكار الكبرى. فمثل هذه الأفكار تتناقض من حيث مضمونها الأخلاقي مع الحروب، ولا تعد الحروب أدوات ملائمة لتحقيقها أياً كانت المبررات والأسباب.
فالفكرة الكبرى ذات البعد الإنساني إذا لم تمتلك مقومات الإقناع والتغيير من داخلها وبأدواتها الذاتية فإن فرضها بالقوة العسكرية يصبح محكوماً بإشكاليات النتائج التي تتمخض عن هذه القوة، وهي إشكاليات تتجذر في بنية الوضع العام الذي تولده الحرب وتتجه به نحو الإضطراب وعدم الإستقرار.
أبرز إشكالية من بين هذه الإشكاليات هي الإلتباس الذي يصيب الشخصية المحورية في الحرب أو ما يعرف بالقائد أو الزعيم والتي عبرنا عنها بتضخم الشخصية على حساب الفكرة. فهذا الإلتباس ليس مجرد حالة وجدانية تتلبس الشخص وتعيد تكوينه بمزاج البيئة الجديدة المحيطة به، ولكنه تعبير عن تغيرات جوهرية في الفضاءات التي تولدها الحروب.. وأقصد بها الفضاءات التي تظل دانات المدافع وأزيز الرصاص وجثث القتلى وصور الدمار تملأ مساحتها داخل الوعي وفي الوجود على السواء.
لا تبدو المسألة منتجا جانبيا في تجلياتها التي تجسدها نتائج الحروب في تلك الصور المادية والمعنوية المأساوية، بل يتعين قراءة أبعادها فيما تسفر عنه أحداث الحياة من تشكل لثنائيات ومتقابلات عميقة المحتوى مثل النصر والهزيمة، الثأر والتسامح،الإستكانة والثورة، التطرف والإعتدال، البناء والخراب.. إلخ.
وما ينطبق على الأفراد والدول ينطبق على الحركات الشعبية والثورات والعمليات الإجتماعية المصاحبة. وهذه ما لم تنضبط للقيم التي تميزها عن " الخصم" الذي ثارت عليه فإن عنفوانها قد يقودها إلى طريق العنف واستخدام نفس أدوات ذلك الخصم بما في ذلك ثقافته وخطابه. إن أدوات العنف لا تتميز عن بعضها فهي بطبيعتها مرذولة ويتسم من يلجأ إليها بصفاتها التي غالبا ما تكون غاشمة ومثقلة ببلادة ضخمة يصعب على أصحابها تحديد خط السير خارج دائرة الفوضى التي يثيرها العنف ويبعث فيها أردأ نماذج السلوك البشري الذي لا يكون مؤهلا لشيئ سوى التخريب وهدر الفرص.
وما يعد كارثياً هنا هو أن المزاج الثوري بطبيعته يعج بعناصرالعنف مما يجعله مؤهلاً وميالاً لممارسته ما لم يتمكن الحامل السياسي والثقافي للثورة من تكوين منظومة ضبط قيمية قوية في ميدان الفعل االثوري وبين الجماهير وعلى مستوى رفيع من الثقة والتفاهم بين أطراف هذه العملية تمنع المغامرة بصورها المختلفة وتحد من نزعات التفرد والإنتقام.
والميدان الثوري دائماً ما يكون قابلا لخلق أكثر من "زعيم"، ولأن هذه الزعامات تصنع على عجل ووفقا لحاجة اللحظة الثورية، فإن كثيرا من الزعامات التي تتوالد هنا غالبا ما تصاب بداء التماهي مع الخصم الذي ثاروا عليه وخاصة أولئك الذين يرون في الثورة طريقا للخلاص الشخصي من وضع اجتماعي معين. إن صناعة الزعامات على عجل هي أخطر ما تتعرض له الثورات حيث تصبح الفواتير التي يجب على الثورة أن تدفعها ضخمة لدرجة الإرهاق، وأهم ما تتمخض عنه أعباء هذه الفواتير هي أن تغدو الثورة على المحك بين أن تمضي في إجتثاث قيم نظام الحكم الذي أفسد المجتمع وبناء النظام الثوري البديل، أومواصلة إنتاج هذه القيم وتقليده في أسوأ صورة يمكن أن تؤول إليها أي ثورة تفقد ضوابطها عند محطة معينة في مسارها الطويل.
لقد رأينا في كثير من التجارب التاريخية كيف آلت الثورات العربية في طبعتها القديمة إلى تلك النهايات المأساوية بوقوعها في فخ التماهي مع الأنظمة التي ثارت عليها حتى أنها أصبحت في الغالب نسخا مكرورة منها. ولا يمكن أن نعيد هذه المسألة إلى الصدفة، بل لا بد من البحث عن أسبابها في طبيعة القوى التي حملت الثورة منذ البداية وأدواتها المستخدمة. هذه القوى، بما آلت إليه، كانت ذات طابع نخبوي لم تسمح بتشكل الثقافة السياسية للمجتمع بعيدا عن رقابتها وتدخلها بشروط غالبا ما حاصرت المسار الثوري بقوائم من الممنوعات والمحرمات والخطوط الحمراء.. وهي القوائم التي كان هدفها في الأساس حماية نخب الحكم من الثورات المصادرة. غير أنه وإن كانت هذه النخب قد حمت نفسها من احتمالات إعادة إنتاج الثورةوذلك بالتحكم في مسارات الحياة السياسية اللاحقة بوسائط قمعية، إلا أنها لم تستطع أن تحمي نفسها من نزعة إنتاج الزعيم الأوحد بما رافقها من صراعات وتصفيات.. وهكذا فقد كان إنتاج الزعيم الأوحد على حساب الثورة، سواء من داخلها أو من خارجها،هي السمة الغالبة التي آلت إليها هذه الثورات. والثورة التي آلت إلى قبضة الزعيم لا بد من إعادة بناءها في الوعي على أنها لا تشبه الثورات الحقيقية وأن خللا ما جعلها عرضة لمثل هذا الإغتصاب.
من المهم أن نلاحظ هنا أن العنف والحروب قد تدخلا في محطات معينة لتعطيل ما تبقى من عناصر ثورية لتخلو الطريق للمنتفعين والفاسدين للتسلل إلى مركز القرار، ومن ثم، إستكمال حلقات السيطرة على السلطة من خلال ملئ الفضاءات الثورية بقيم نقيضة.
والفكرة الثورية لا يصح فرضها بالقوة ما لم تنشأ بالمقابل قوة مناهضة تقاومها بالعنف والحروب. المقصود هنا هو أن الفكرة الثورية لا يجب أن تنتصر بالعنف والعدوان، فقد تنتصر لفترة معينة ولكنها لن تلبث أن تنتكس بسبب التحلل السريع للعناصر الثورية داخل بيئة "العنف" التي تتضخم فيها ثقافة طاردة بطبيعتها لقيم الحرية والعدل والتعايش والتسامح واحترام الآخر، أي القيم الثورية الحقيقية بالمعنى الذي إستقرت عليه بعد تجارب طويلة من الجدل والصراع.
والقوى التي تأخذ الثورة، أي ثورة، إلى طريق العنف والإنتقام لا بد أن تتضخم عند منتسبيها الذات على حساب الفكرة الثورية،ويستحيل عليها أن تستعيد التوازن بين المكونات السياسية والثقافية والأخلاقية للثورة في صلتها ب "المكون الدخيل" المتمثل في العنف والعدوان لأن هذا الأخير لا يلبث أن يعيد بناء المكونات كلها لصالحه وبشروطه بحيث يصبح تمجيد القوة والعنف شرطا ضروريا للإنتماء الثوري. وفي هذا السياق تصبح القوة والمغامرة والعنف هي الصفات المقبولة ثوريا، ويغدو أصحابها هم الثوريون. ويسجل التاريخ حالات مشابهة كثيرة، ويهمنا أن نستدل منها بما أسفر عنه العنف من نتائج كارثية على مسارهذه الثورات فيما بعد وعلاقة النخب الثورية ببعضها، وكيف أن هذه النخب استسلمت جميعا للقرار المغامر وما تمخض عنه من تصفيات "ثورية" واختزال الجميع في "واحد".
وبطبيعة الحال فإن الثورةيجب أن ترسخ قيمها بالتربية والحوار والتفاهم واحترام الإختلاف. والشعوب التي أنهكها الإستبداد دائما ما تكون عرضة للخديعة التي يمارسها الصخب الثوري المخادع والذي ينقشع في نهاية المطاف عن خواء يملأه الإنتهازيون والمتسلقون والمغامرون والمتعيشون وكذا كل من يركب قاربا ثوريا ولكن ليبحرعليه إلى شاطئ مختلف عن الشاطئ الذي يجب أن ترسو فيه ثورة الشعب.
_ 2_
الثورة اليمنية في طبعتها الجديدة
التجربة الثورية اليمنية في طبعتها الجديدة هي نموذج للثورات التي استطاعت أن تتخلص من فخ العنف على الرغم من توفر شروطه التي تصدرتها عدوانية النظام وهمجية ممارسته للعنف بتلك الطريقة التي استهدفت في الأساس توفير المناخ لجر الجميع إلى الحرب الأهلية. وكل المحاولات التي بذلها النظام لجر الثورة إلى العنف إصطدمت بقوة ونزاهة القناعة عند أغلبية الثوار بأهمية وضرورة التمسك بسلمية الثورة.
غير أنه لا بد من الإشارة هنا إلى أن العنف الذي مارسه النظام كان قد ولد قدراً من رد الفعل إنعكس في جزء من الخطاب الذي حمله بعض ممن ينتسبون إلى صف الثورة وهو ما هدد بوضع الثورة بين فكي كماشة العنف من طرفين متقابلين أخذ كل طرف منهما في مرحلة معينة يوفر للطرف الآخرالشروط الضرورية للعنف والعنف المضاد. ولما كان النظام هو المستفيد في الأساس من العنف فقد وجد في هذا الخطاب مبتغاه لتبرير القتل والقمع اللذان مارسهما ضد الثورة السلمية. ربما كان سبب هذا الخطاب هو الحماس عند البعض، وربما كان البعض قد إستدرج إلى فخ الخطاب الناري كرد فعل للعنف الذي مارسه النظام، والذي برز في أسوأ صوره في جمعة الكرامة يوم 18 مارس 2011والذي تزلزل النظام على إثره مما أجبر رئيسه حينها على تقديم مبادرته بنقل السلطة وطلب االحصانة إلى السفير الأمريكي، وأخيراً ربما أن بعضا ممن لبسوا رداء الثورية في لحظة معينة ولأسباب لا صلة لها بالثورة قد أدوا دورهم المرسوم بعناية لإحداث خلل بين الطابع السلمي للثورة وهذا الخطاب الصاخب المنسوب إليها ظلماً وعدواناً وذلك بهدف إرباك مسارها،لاسيما وأن هذا النوع الأخير من الخطاب كان كل شغله هو التشكيك في المسار السلمي والسياسي للثورة وهو المسار الذي أحرج النظام وضيق عليه الخناق وكشف جوهره القمعي بعد أن نزع عنه تلك الغلالة التي ظل يناور بها في مسار العمل السلمي متحينا رفض القوى السياسية لهذا المسار ليكسب بذلك رضى القوى الدولية، أو صمتها على الأقل عند ممارسة العنف والقمع.
لقد استطاع المسار السياسي أن يحمي الثورة بأن جسد بالملموس طابعها السلمي وكشف بالمقابل الطابع القمعي للنظام وهو ما كان له أثره البالغ على الموقف الدولي في الضغط على النظام للسير في طريق نقل السلطة والتغيير بموجب المرجعية المتمثلة في المبادرة الخليجية والآلية المكملة لها.
لقد وضعت الثورة في فوهة كماشة العنف والذي لم يكن له غير معادل موضوعي واحد وهو "الحرب الأهلية". لكن الطابع السلمي للثورة وتمسك الثوار بقيم الثورة السلمية وضعهم أمام مسئوليتهم التاريخية بالوصول بالثورة إلى غاياتها سلمياً. ولم تكن المسألة بطبيعة الحال خالية من المصاعب وخاصة حينما كان النظام يمارس العنف والقتل والقمع مما يرفع الإحتقان بهذه الممارسات إلى درجة يصبح معها الحديث عن المسار السياسي "معيباً"، ويبرز في مثل هذه الحالات الخطاب الرافض والمحرض الذي يتهم المسار السياسي بالخيانة والتفريط وسرقة الثورة.. الخ وهو الخطاب الذي كان يحتاج إليه النظام كلما حوصر ليخرج من المأزق. وغالبا ما كان يجري توظيف ذلك لخلق حالة من الإرتباك وسط القوى الثورية، وكأن المهمة الأساسية لهذا االخطاب هي إشعال الحرائق لتمرير مشاريع تصفية الثورة ولكن بلغة ثورية صاخبة ومشاكسة. ويكفينا فقط مثالين للتدليل على سطحية وغوغائية هذا الخطاب المتبادل من طرفي كماشة التطرف.
الأول ويأتي من أنصار صالح وهو يرفض الحصانة بالقول إن صالح لا يحتاج إلى هذا القانون وأن من يحتاجون له هم المجرمون، في الوقت الذي يعرفون فيه أن المبادرة التي وقعواعليها مع الرئيس تتضمن بند الضمانات كشرط رئيسي للتخلي عن السلطة، وأنهم عندما تم إقتراح صياغة القانون على أساس تحقيق المصالحة الوطنية وبفكرة الإستناد على ما يعرف بالعدالة الإنتقالية،أصروا على أن تكون الحصانة للرئيس وعائلته وكل من عملوا معه على نحو مطلق. أما الثاني فيأتي من داخل صفوف الثورة يرفض الحصانة ويطالب بمحاكمة صالح وكأنه قد أصبح في قبضتهم، ودون أن يقولوا شيئا عن كيفية تحقيق ذلك ودون أن يكون تحقيقه عمليا مدعاة لحرب لن تبقي يمنا تبنيه هذه الثورة في حالة إنتصارها.
الثورة التي تقبل السكون داخل هذه الكماشة ولا تعمل جدياً وبرؤيا استراتيجية في أن تجد لنفسها طريقا خارجها تصل عبره إلى غايتها ستتحول إلى ظاهرة صوتية كتلك التي يمارسها بعض المتنطعين بصورة دينكشوتية تقدم الدليل تلو الدليل على الإلتباس الخطير الذي يضخم الذات عند هؤلاء في هذه المرحلة المبكرة من تكون جنين الزعامة في صورته الأميبية.. يتجسد ذلك في خطاب ظاهره ثوري وباطنه الخديعة.
كم هي مخيفة الأصوات الصاخبة التي لا سقف لها.. أصحاب هذه الأصوات لا يستقرون على حال، وفي نهاية المطاف يستقرون في حضن الخصم الذي يثورون عليه.. يتحكم فيهم الغضب والحنق تجاه كل شيئ، وتتملكهم الحماقة التي تجعلهم يرون كل شيئ خاطئاً طالما أنهم لا يتصدرون المشهد ولا يتحكمون به. كثير من الثورات عانت من هذه الظاهرة باعتبارها العاهة المخادعة التي لا تكتشف إلا وقد دمرت الثورات، وتسجل كثير من التجارب الثورية أن هذه العاهة كانت السبب الأساسي فيما أصابها من إنتكاسات.
والسؤال هو هل كانت هناك إمكانية لطريق آخر تنتصر فيه الثورة، أو طريق آخر للنظام يهزم فيه الثورة ؟
هذا السؤال لا يصعب الرد عليه بعد سنة من الثورة ومرورها بمحطات مختلفة تكفي للتدليل على أن الثورة قد أنجزت مهمتها الأساسية في تحقيق المرحلة الأهم من عملية التغيير، وهي مرحلة ما كان يمكن لها أن تتحقق بدون تلك التضحيات التي قدمها شباب الثورة.. وإذا كانت هذه العملية قد توقفت مؤقتاً عند هذا المستوى بسبب عدد من العوامل التي أسهمت في جعل عملية التغيير النهائي تصل إلى مفترق طريقين:إما مواصلة السير في طريق الخيار السلمي، وهو في الأساس خيار الثورة وطريقها منذ البداية، أو الإستجابة لخيار النظام وهو طريق العنف والحرب والذي كان قد حضر له ولكنه لا يريد أن يتحمل مسئولية الذهاب إليه بمفرده فقد كان يعمل على توريط قوى أخرى داخل الثورة بالإستجابة لخياره عبرالإنزلاق نحو حرب لا يبدو فيها أنه مسئول عنها.
ولم يكن أمام قوى الثورة من خيار سوى التمسك بالخيار السلمي، وهو الخيار الصحيح. لكن الخيار السلمي، كان يعني فيما يعنيه السير في طريق التسوية السياسية التي ستنجز عملية التغيير والتحول. ولا بد هنا من قراءة مصاحبة لهذا الخيار للواقع الموضوعي المحيط بالعملية الثورية باستعراض موجز لعدد من العوامل ذات القيمة الخاصة المؤثرة في هذا الواقع. العامل الأول : من المهم أن لا نتجاهل الطريقة التي رسمت بها الثورة على الأرض في ظل موازين قوة أخذت تنهك البلاد والعباد وتنتج كل يوم عوامل إنهيار الدولة دون أن تغير من طبيعة النظام، حتى بعد تفككه، والذي لم يكن في الأساس نظاما مؤسسيا قابلا للتأثر بإنهيار مؤسساته وتوقفها عن العمل.
كان نظاما يقوم على قاعدة النفوذ الشخصي لصالح، فلم يسمح للمؤسسات التي أنشأها على نحو ديكوري أن تنازعه الصلاحيات المطلقة التي خص بها نفسه في المجرى العام لحكمه البلاد طوال كل هذه السنين. انهيارالبلاد لن يكون لمصلحة الثورة بينما نجد أن النظام لم يعد يهمه أن تتفكك الدولة أو تنهار، بالعكس كان هذا هو ما يسعى إليه بحساب أن هذا التفكك يضعف من زخم الثورة ببقاء قوى سياسية واجتماعية خارج صفوفها لصالح مشروعات أخرى تنسجم في غاياتها مع أهداف مشروعه.
ولذلك لا يستبعد أنه شجع هذه النزعة التفكيكية بوسائل عديدة، الأمر الذي جعله يبدو في وضع مريح حينما يتعلق الأمر بعنصر الزمن. العامل الثاني : هو أن سنوات الصراع والحروب قد أفرزت قوى متنافرة ومتصارعة، البعض منها وجد نفسه معا في خندق واحد تحت راية الثورة، وبدلا من أن يبعث فيهم هذا الوضع الجديد قيمه الثورية بما تستلزمه من رص الصفوف لتعبئة الجميع لتحقيق الهدف الذي جمعتهم الثورة من أجله أخذت قيم الصراعات القديمة ومخلفاتها وآثارها البائسة تنخر عميقاً داخل تاريخ إقصائي أبله أعاد إنتاج نفسه في صور جديدة من الصراع ورفض الآخر والإحتيال على المسار الثوري بالإعتصام داخل تهويمات سياسية انعزالية وخنادق أيديولوجيات متعصبة عفى عليها الزمن وكانت أحد روافد الإستبداد في هذا البلد بدون منازع. لقد طوحت هذه الصراعات، بما فيها المواجهات المسلحة المؤسفة التي شهدها الجوف وصعدة وحجة ومناطق أخرى، وكذا الحسابات الخرقاء، بجزء من النضال الثوري نحو مسارب إمتصت بالنتيجة قدراً من تلك الطاقة المتدفقة عند شباب الثورة وأقامت قدرا من الحواجز النفسية بعد أن كانت الثورة قد فتحت الساحات على طول البلاد وعرضها بدون حواجز لكل الثوارعلى إختلاف مشاربهم وانتماءاتهم. العامل الثالث : راهن نظام صالح على إنهاك الشعب.
ففي الوقت الذي تمترس فيه وراء السلاح الذي كدسه من موارد البلاد وعلى حساب قوت الشعب، مع سيطرة كاملة على الموارد المالية وإنفاقها للأغراض التي تمكنه من التحكم في ميزان القوة على الأرض وذلك من خلال الإنفاق ببذخ لا مثيل له على الأنصار، فقد أخذ يرهق الشعب إقتصادياً وأمنياً، وأخذت موارد البلد النفطية تنضب، والإنتاج السلعي يتدهور، والمحروقات تختفي، وطوابيرغازالطباخة تصل إلى أكثر من كيلو متروبأسعار خيالية [تذكرت هنا ملحمة كوريا الجنوبية وغازاليمن الفقير]، والكهرباء تنطفي لأكثر من ثلاث وعشرين ساعة في اليوم الواحد وتسريح الاف العمال والموظفين بسبب توقف كثير من الأنشطة الاقتصادية. العامل الرابع : هو أن المجتمع الذي تحمل مسئوليته تجاه الساحات على ذلك النحو الذي أكسب الثورة طابعها الشعبي وذلك بمدها بمتطلباتها من الغذاء والدواء والحماية أخذ يتململ ويترنح تحت وطأة المكابدة الإقتصادية والإحساس بتراجع الزخم الثوري الذي تولد بفعل ترسيم الثورة في ساحات أخذت تنعزل تدريجيا عن محيطها لدرجة بدت معها الثورة محاصرة وغير قادرة على إختراق الحواجز المحيطة بها إلا بتضحيات جسيمة كان أكثرها دموية محاولة الخروج إلى مجلس الوزراء وكذا مجزرة مسيرة يوم 18 سبتمبر2011التي صمت عنها المجتمع الدولي مبرراً صمته بأن الشباب "تجاوزوا الخط المسموح به". وهنا تكمن خطورة الترسيم الذي إتخذ منه النظام مبرراً لضرب المسيرات السلمية.
العامل الخامس : في هذه الأثناء أخذت تجليات الموروث التفكيكي الذي خلفه هذاالنظام تبرز على ذلكالنحو الذي هرعت فيه بعض الجماعات للبحث عن حل لبعض المشكلات بصورة مستقلة عن قضية التغيير الكبرى لنسمع تحليلات ذات طابع غرائبي مثل أن إنتصار الثورةسيضر بالقضية الجنوبية مع ما رتبته هذه النزعة الغرائبية من إنشقاق خطير في التلاحم الوطني الذي خلقته الثورة متجاوزة الفواصل التي أنتجتها سياسات النظام الخاطئة مما أعاد لبقايا النظام قدراً من توازنه الداخلي، فالفجوات التي تحدث هنا يتسلل منها لإعادة بناء حساباته للهجوم على الثورة.
العامل السادس : الإنقسام الرأسي الذي حدث في النظام عملت السلطة على تجييره لصالحها محاولة تصوير الوضع على انه صراع داخلي وعملت على تسويقه بقوة داخليا وخارجيا ووظفته لتبرير العنف ضد الإحتجاجات السلمية مصورة المسألة وكأنها مواجهة بين طرفين مسلحين وكثيرا ما انطلى ذلك على الكثيرين الأمر الذي عزز إحتمالات تفجر حرب بين أطراف متصارعة تقود في نهاية المطاف إلى تهميش الثورة السلمبة ومحاصرتها في الساحات التي أخذت تعاني من وطأة كل هذه التداعيات. ناهيك عن أن تفجير حرب الحصبة بالعدوان على آل الأحمر كان المراد منه تحويل الأنظار عن الثورة السلمية وإكسابها طابعا عسكريا بجر بعض أطرافها إلى الحرب، وكان اختيار عنوان هذه الحرب ذا مغزى أكد إصرار النظام على تشويه الثورة وتصويرها على أنها صراع على السلطة مع حلفاء سابقين. وبالإستناد إلى ذلك يمكن القول إنه إستطاع أن يربك الحالة الثوريةبتوفير مادة إعلامية تعبوية مضادة للثورة وسلميتها وغاياتها النبيلة.
العامل السابع : بقاء قطاع واسع من المثقفين والنخب خارج العملية الثورية، ولا نقصد بهم أولئك الذين إصطفوا مع النظام فهؤلاء قد حسموا موقفهم مع الإستبداد، وإنما أولئك الذين ظلوا ينتظرون تطور الأحداث ويفلسفون المسألة من زاوية مختلفة تبرر بقاءهم خارج العملية وذلك بإعادة بناء العملية الثورية في المخيلة الإجتماعية على أنها صراع بين أطراف النظام وظلوا يحملون على الأحزاب السياسية كجزء من هذا العمل التبريري الذي إضطلعوا به وأتقنوه إلى درجة أنه أخذ ينتج آثارا سلبية في مسار العمل الثوري.
عمل بعض هؤلاء على تصغير الأحزاب والقوى السياسية والثورية بشكل عام بالمقارنة مع الرئيس الذي كثيرا ما صوروه بأنه الأكثر حنكة والأكثر قدرة وذكاء وشطارة، وأن لديه من المواهب والقدرات ما تجعله يتغلب على كل مأزق يمر به، بل إن بعضهم أمعن في الإستخفاف بقوى المعارضة ووصفها بأنها ليست سوى مجرد لعبة يتسلى بها الرئيس إلى غير ذلك من الضخ الإعلامي الذي يجعل المشهد مختزلا في شخصية سيريالية تتجسد لكل مشاهد في الهيئة التي ارتسمت في مخيلته عن الكائن االذي لا يقهر تماما مثلما استطاعت خدع الإمام احمد ان تخلق عند عامة الناس تلك الشخصية الإشكالية الأسطورية.
تكمن المشكلة في الإستبداد الذي ينتج ثقافته الممجدة للإستبداد وفكره الممالئ للظلم والفساد وكل مخرجات الإستبداد الأخرى حيث يتحول قطاع من نخب الفكر والثقافة إلى أدوات إستبداد قمعية أشد خطورة من الجلادين أنفسهم وذلك لدورهم في ترويض المجتمع على قبول الإستبداد ومخرجاته والتعايش معها أولا ثم دورهم في نبذ فكرة مقاومة الإستبداد و تيئيس المجتمع من إمكانية الإنتصار عليه.
لقد لعب هؤلاء المثقفون دور التيئيس للجماهير بإنتصار الثورة بعد أن فشلوا في إقناع المجتمع بنبذ فكرة مقاومة الإستبداد وبقائهم خارج العملية على ذلك النحو الذي سجل ظاهرة تحتاج إلى قراءة أعمق وأوسع لسبر غورها إجتماعيا وسياسيا ونفسيا. العامل الثامن : هو ما اعترى المسار السياسي من تعثر،فالمبادرة الخليجية التي شكلت المرجعية الأساسية للمسار السياسي في صيغتها المستجيبة لخيار التغيير سلميا بنقل السلطة والتمهيد للتحول الديمقراطي الجذري لم يكن أصحابها هم الحامل الفعلي لها والضاغط بقوة على الأطراف المختلفة وبالذات على النظام الذي أخذ يناور بالتوقيع متحيناً الفرصة للانقضاض على المشهد بخيار الحرب وذلك لأسباب تتعلق بتعقيدات وتشابك الوضع الإقليمي على الرغم من اقتناع الجميع بأهمية وضرورة التغيير، ومما سهل للنظام التملص من أي ضغط كان قد مورس عليه بهذا القدر أو ذاك هو حادث جامع دار الرئاسة الذي استغله النظام في التصعيد العسكري والإعلامي وخلط الأوراق.
ومن الممكن أن نلاحظ كيف أنهم عادوا ورموا الكرة في ملعب اليمنيين عندما أعيتهم حيل النظام ومماطلته وصرحوا أكثر من مرة أنهم مع ما يتفق عليه اليمنيون. لقد وضع هذا الموقف المبادرة في مأزق أكثر من مرة. وهذا يرد على من يقول أن المبادرة إقتحمت المسار الثوري لتغير مجراه. لقد كانت خيار الضرورة في لحظة تحول حاسمة من حياة اليمن ومشوارها الطويل غير المستقر والمهدد بالحرب في كل منعطف يتجه إليه. والقوى السياسية المعارضة تحملت مسئولية السير في هذا الطريق من منطلق إدراكها بأن هذا الخيار السلمي هو الذي سيحق أهداف الثورة في التغيير والتحول الديمقراطي والنهوض الشامل.
وهنا لابد من تسجيل ورصد أهم محطة في تاريخ الثورة وهي الصمود الأسطوري لشباب الساحات ومقاومة العنف الذي طالها وأحاط بها وخاصة في تعز وصنعاء،هذا الصمود الذي أكد أصالة الثورةوقدرتها على إنتاج ديناميات داخلية مكنتها من الاستمرار وتجاوز فخ العنف والتغلب على كثير من الصعوبات التي رافقت هذه المحطة. وبصورة مرافقة لذلك أخذ المجتمع الدولي يولي إهتماما متزايدا بالوضع في اليمن. لكن هذا الإهتمام كان يجري تكييفه مع إيقاع المبادرة دون زياد أو نقصان من منطلق أن الإجماع الدولي الذي حظيت به المبادرة قد وضع الجميع أمام مسئولية توفير الظروف المناسبة لتنفيذ هذه المبادرة وآليتها التنفيذية التي لم تكن قد صيغت بشكل نهائي. لقد شكل موقف الأطراف اليمنية من المبادرة في نظر المجتمع الدولي معيارا لمدى إستعدادهم للتمسك بالمسار السياسي والحل السلمي، وهو الأمر الذي حكم موقفهم في المحطات المختلفة حتى في أشد اللحظات حرجا جراء القمع والعنف الذي كان النظام يمارسهما..
وحتى حينما لم يكن هذا الموقف يتناسب مع شدة هذا القمع في مواطن كثيرة. ومع ذلك فإنه لا يمكن الإستهانة بجهد المجتمع الدولي في الوصول بالعملية السياسية إلى غاياتها النهائية. وعلى الرغم من أن آلية السلطة استطاعت أن تمنع إتخاذ قرار في مجلس حقوق الإنسان في جنيف في يوليه 2011 بشأن تشكيل لجنة دولية للتحقيق في جرائم وانتهاكات النظام في ضوء زيارة البعثة الأممية في يونية من نفس العام بحجة عدم تصعيد الموقف ضمانا لتنفيذ المبادرة إلا أن نشاط مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة في هذه الفترة مع القوى السياسية كان قد أثمر رؤيا مكملة لنقل لسلطة، فالعمل السياسي في هذه الفترة سار جنباً إلى جنب مع صمود الساحات،وكان أن تم نقل الوضع في اليمن إلى مجلس الأمن ليتخذ قراره الشهير رقم2014 بإجماع أعضائه في نوفمبر 2011، وبذلك تكون الثورة قد دخلت مرحلة حاسمة لم يكن أمام المجتمع الدولي من خيار سوى أن يتحمل مسئوليته على نحو جماعي يتجاوز الحسابات الخاصة بكل قطر على حدة.
العامل التاسع : يتمثل في أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت قد بنت علاقتها مع نظام صالح على عنصر حيوي بالنسبة لها وهو مكافحة الإرهاب، وأنشأت لهذا الغرض أجهزة بإمكانيات وتجهيزات كبيرة ومهمة وحيوية حديثة تجاوزت في نشاطها اليمن إلى محيط أوسع , حيث أصبح من أولوياتها الحفاظ عليها كي لا تؤول إلى أيدي غير "مضمونة ".. لقد كانت هذه المسألة تؤرق الولايات االمتحدة كثيرا، حتى بعد أن اكتشفت حقيقة أن نظام صالح لم يكن شريكاً صادقاً وموثوقاً في مكافحة الإرهاب. وقامت إستراتيجيتها في التعاطي مع الثورة على عنصرين : الأول وهو الإقتناع الكامل بأن صالح لم يعد صالحا للحكم وأن التغيير ونقل السلطة أصبح ضرورة ملحة لإستقرار ونهوض اليمن، أما العنصر الثاني فيتمثل بأسلوب التغيير حيث رأت في المبادرة الخليجية الطريقة المثلى للسير في عملية التغيير. وعلى هذا الطريق سارت دول الإتحاد الأوربي.
ولا بد من الإشارة هنا إلى أن غياب وضعف التقاليد الثورية والأساليب المنظمة للنضال الثوري السلمي قد ترك آثاراً سلبية في مجرى النشاط اليومي والعلاقات ما بين قوى الثورة لم تتمكن معها من إدارة الخلافات بمنهج متناغم مع القيم الثورية التي أخذت تتوالد وتصطدم بهذا الوضع الذي أخذ جزء منه يستقطب بعوامل تتنافر موضوعيا مع حالة الإنسجام الداخلي لعناصر الثورة االسلمية، وكان أبرز تعبيرات ذلك التنافر كما سبق أن أشرنا هو الخطاب الصاخب الذي لم يكن في جوهره أكثر من مجرد تحريض للإستجابة لمنازلة العنف الذي كان النظام يهيئ له في صورة حرب أهلية شاملة يرى فيها خلاصا من مأزق تنفيذ المبادرة التي أعلن قبوله بها والقائمةعلى أساس نقل السلطة وتغييرالنظام سلميا ومنح صالح ومن عملوا معه الحصانة مقابل ذلك. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن هذا الخطاب قد استهوى الكثير من الشباب، وهو الخطاب الذي غلبت عليه لغة التخوين للمسار السياسي وعلى نحو لم يكن صعبا إدراك أسبابه الحقيقية في ظروف هشاشة التلاحم الوطني بين القوى السياسية وكذا حدة الإستقطابات الإقليمية التي راح بعضها يغازل الشباب بمنطق الثورة المسلحة.
_ 3 _
المشهد السياسي أوسع دائرة من الخطاب التحريضي
وفي مشهد إستعصى فيه على المنطق السياسي أن يجد جسورا للتفاهم مع الإعتراضات التي يثيرها هذا المنطق كتحريض على المبادرة السلمية، كانت التعقيدات تأتي من الزاوية التي تعرض فيها صورة المشهد العام على نحو جزئي،أيشهداءوقتلة، دون استكمال للمشهد في صورته المتكاملة التي تجسدها ثورة أطاحت بنظام لم يكن أحد إلى عهد قريب يصدق أن بالإمكان الإطاحة به مها بلغت التضحيات.
إن هذا العرض الجزئي للمشهد وبتلك الصورة التي جعلت الحصانة تتصدر عناصر المبادرة مع تغييب مقصود للقضية الرئيسية المتمثلة بالتغيير ونقل السلطة سهل مهمة النيل من المسار السياسي من قبل الرافضين له لأسباب تتعلق بالحالة الوجدانية المستغرقة في مشهد القتل والدم وعدوانية النظام وهي مسألة لا يمكن تجاهلها عند تقييم الموقف، لكن عندما يتعلق الأمر بمستقبل الثورة فإن المسألة تحتاج إلى توسيع دائرة المشهد لنخلص من هذا إلى نتيجتين في غاية الأهمية وهما تأكيد الطبيعة القمعية والدموية للنظام وهذا يزكي مطلب الثورة السلمية بإسقاطه باعتباره نظاما فاقد الشرعية الشعبية بعد أن لجأ إلى العنف والقتل وسفك الدماء،وثانيا إن نظاما بهذا المستوى من القمع لا يمكن أن يستسلم للتغيير بدون تضحيات.
غير أن الوجه الآخر لهذا الخطاب لم يكن أكثر من تعبير عن مشروع مضطرب، كان خطابا غاضبا متحاملا على القوى التي سارت في هذا المسار السياسي.
وبتفكيك هذا الخطاب نجده غير قادر على تقديم إجابة واضحة ومقنعة للبديل عن الخيار السياسي السلمي ويقف بالعملية في طريق مسدود لا يفضي في نهاية المطاف إلا إلى الحرب أو إلى إنهيار البلاد. وفي الحالتين لن يكون المستفيد سوى مخلفات النظام المتمسكة بالسلطة بأي ثمن لأن النتيجة الوحيدة هي تفكيك البلاد وقيام مناطق متناحرة يسيطر عليها أمراء حروب. وإذا كانت مخلفات النظام لديها ما يؤهلها للتمترس في أي من هذه المناطق والسيطرة عليها ومواصلة البقاء من خلالها، إضافة إلى ما سيفرضه الإنهيار من شروط البحث عن حماية الكيانات الإجتماعية هنا وهناك بقوة السلاح، ناهيك عما أوجدته الحروب السايقة للنظام وسياساته الخاطئة من أمر واقع للسيطرة الفعلية على الأرض لبعض القوى، فما الذي يا ترى ستجنيه الثورة من وضع كهذا ؟؟ إن الثورة ستكون الخاسر الأكبر في هذه العملية التي أخذ النظام يراهن فيها على الزمن ويدفع بالبلاد دفعا نحو الإنهيار.
إن كل المعطيات الأكثر وضوحا تشير إلى أن البلد كان يسير نحو الإنهيار.. ذلك أن الطبيعة الخاصة للنظام السياسي والإجتماعي دفعت بإستقطابات جهوية وطائفية وفئوية حادة، وشجع على تكريس هذه الاستقطابات بالإستناد إلى عوامل تاريخية وسياسية وثقافية وفر لها شروط التحول إلى مواجهة مع المشروع الوطني للثورة بشكل مباشر أو غير مباشر.. أي أن النظام دافع جزئياً عن نفسه في مواجهة الثورة بإعادة إنتاج البنية السياسية والإجتماعية للدولة بالإستناد إلى مخرجات هذه الاستقطابات المتمثلة في هذه المرتكزات المتناقضة موضوعيا مع الطابع الوطني للثورة. وأخذت هذه المرتكزات بما توفر لديها من دعم وتشجيع تستخف بكل جهد يسعى إلى مقاومة ورفض تفكيك الدولة وإنهيارها من منطلق ينسجم مع مشروعها الخاص. لقد كانت فكرة "المجلس الوطني" مثلا كمشروع تنتظم فيه كافة القوى السياسية والاجتماعية تجسيدا عمليا لمقاومة ومحاصرة إنهيار الدولة، لكن المؤسف هو أن طغيان المشروع التفكيكي كان أقوى عند البعض حيث برزت تجليات ذلك الموقف في الصيغ التبريرية التي رفض بها المشروع وهي تبريرات لا تحمل أي دلالة على أن بعض هذه القوى كانت قد حسمت أمرها على السير في طريق التغيير الحقيقي للنظام القائم، أي طريق الثورة.. فموقفها من النظام لا يتجاوز كونه خصما مؤقتاً، أي إلى المستوى الذي يكون عنده جاهزا لتحقيق مشروع التفكيك... وطالما تحققت المصلحة المشتركة عند هذا المشروع فلا بد إذا أن يكون الخصم المشترك من الآن وصاعدا هو المشروع الوطني الرافض للانهيار وللتفكيك. ولذلك نجد أن بعضا من هذه القوى عملت بكل قوة على تأجيج منطق الحرب باعتبارها الطريق المفضي إلى هذه النهاية.. بل وانتظرت ذلك وراهنت عليه للأسف، وعندما سارت الأمور في الطريق الذي اختطته الثورة منذ البداية وهو المسار السياسي السلمي لم تجد غير لغة التخوين لتبدو كمن خسر آخر أحصنة الرهان، ولكن أي رهان هذا الذي يغامر بالبلاد كلها مقابل مشروع مجهول!!
لا يمكن بأي حال تجاهل هذه الحقيقة عند الرد على هذا السؤاال المركب، فالحقيقة هي أن مخطط الانهيار والتفكك كان يستهوي بقايا النظام وبعض القوى الأخرى، واستطاعت قوى هذا المخطط أن تربك مسار الثورة بمحاولة جرها إلى العنف من خلال التشكيك في قدرتها على الانتصار سلميا بل وحاولت تعطيل ذلك عملياً بوسائل عديدة.
لقد أدركت قوى الثورة أن أي ثورة لا يمكن أن تنجح في بلد منهار ومفكك الأوصال. ولذلك فقد تصدت بقوة لخيار القوى المناهضة للثورة الرامي إلى انهيار الدولة عبر إشعال الحرب أو تجميد الوضع في حالة من التوازن الذي يبدأ فيه مخطط التفكيك والانهيارات الجزئية والإستيلاء العسكري المنظم على بعض مناطق البلاد من قبل قوى مسلحة معروفة أو مجهولة الهوية. كان هذا هو الخيار الذي عمل النظام ومرتكزاته اللاوطنية من أجل تحقيقه بهدف هزيمة الثورة ومشروعها الوطني، خاصة بعد أن أدرك أنه قد تفكك وفقد السيطرة ولم يعد مؤهلا للحكم، ناهيك عن إدراكه أيضا أنه غير قادر على هزيمة الثورة إلا باللجوء إلى هذا الخيار [ خيار شمشون] سواء بالحرب الأهلية أو بمواصلة تجفيف وتجريف الموارد الاقتصادية والمالية وتشجيع المشاريع التفكيكية وخلق بؤر صراع بالإستناد إلى قيم هذا المشروع ودعمها بالمال والسلاح وتسليم مناطق كاملة لمسلحين مجهولي الهوية وتحت رايات غريبة.
لقد كان على الثورة وقواها في أشد اللحظات خطورة وحسما في تاريخ اليمن المعاصر أن تقوم بمهمة الحفاظ على تماسك البلد وعدم السماح بانهياره إلى جانب مواصلة انجاز عملية التغيير السياسي للنظام التي قامت من أجلها. وهاتان المهمتان بطبيعة الحال مترابطتان عضويا. ولا يمكن اليوم النظر إلى عملية التغيير بمعزل عن مهمة الحفاظ على الدولة من الانهيار.
اليوم وقد تحركت عجلة التغيير بصورة تبعث على الدهشة عند كل من راهن على أن الثورة في اليمن لن تنتهي سلمياً لا بد لنا أن نفخر بجيل شاب تحمل عبء هذه الثورة السلمية الظافرة، ويعول عليه أن يواصل عملية التغيير وبناء الدولة المدنية الديمقراطية الإتحادية، دولة المواطنة والعدل والمساواة والحرية. على هذا الجيل أن يدرك أنه مؤهل للعبور باليمن إلى عصر جديد بدا ذات يوم مستحيلا بسبب ما عاناه من انتكاسات متكررة لأحلامه التي حملها كثير من الرواد وصادرتها نخب فاسدة. وهو مؤهل ليس فقط لأنه قادر على تقديم التضحيات ولكن لأنه استطاع أن يلتقط اللحظة المناسبة لانتزاع اليمن من فك الاستبداد والتخلف والمصير المجهول الذي أخذ يتجه نحوه في ظل نظام حكم فشل في بناء الدولة الضامنة للاستقرار والتطور.
وعلى هذا الجيل أن يعبر باليمن فوق الأيديولوجيات الجاهزة، وفوق أمراض النخب السابقة وصراعاتها وحساباتها وقناعاتها الخسرانة دون تعالي وإنما بالاستفادة من الأخطاء وفتح قنوات حية وفاعلة مع العصر والعلوم والمعرفة والفن. عليه أن يتحاور بهدوء وبعمق، ويغادر نزق النخب التي أورثت البلاد وضعا مرتبكاً غير مستقر لا يصلح للتنمية ولا للبناء وإنما للصراعات والحروب ونزعات التغلب والاستهتار بالعقل والاستخفاف بالعلم والاجتهاد وتمجيد الميول المتعالية على منهج التفكير المقاوم للفكر المجهز بأدوات القمع والعقاب والتكفير.
على هذا الجيل أن يعرف أنه ورث وطنا معطل الإمكانيات، تسوده نزعات التفكك ومشاريع نخب خسرت الماضي وليس لديها مانع أن تخسر الحاضر والمستقبل، وأن الاستغراق في مشاريع هذه النخب سيسرق منه المبادرة التي يتوجب عليه صياغتها بمعايير ورؤى تستند إلى روح جديدة لم تتشوه بالانكسارات التي أغرقت البلاد في تجارب سياسية عطلت السير إلى الأمام ولم تفلح سوى في فتح خط مع الماضي بكل آلامه وتعقيداته. يجب أن نوسع مساحة قراءة المشهد بدلاً من إختزاله في جزء [شهداء وقتلة] من موضوعه الكبيركي يصبح للتضحية دلالتها العظيمة.
الشهداء الذين سقطوا على درب الحرية هم الذين صنعوا التغيير، ويجب أن نتذكر دائما أن الإخلاص لقضيتهم والوفاء لهم لن يقتصرا على مجرد المطالبة بمحاسبة الذين قتلوهم وعلى ذلك النحو الذي يخفي عظمة القضية التي استشهدوا من أجلها أو قيمة المنجز الذي حققه استشهادهم..
لا يجب التعامل مع هذه المسألة وكأن هؤلاء الشهداء قد قتلوا وهم يتنزهون ولم يخرجوا بقناعة وإصرار على إسقاط نظام متجذر في الحكم لأكثر من ثلاثة عقود سخرها لبناء حكم يورث للأبناء وهو لا يملك من مقومات الحكم غير الفساد والقمع والشعور بالتملك.
لقد فرضوا التغيير بحبهم للإستشهاد وهو ما يعني أن هذه المسألة يجب أن تبقى حاضرة في الوعي بدلالتها التي تعني أنه من غير الصواب إختزال المعركة مع نظام تهاوى وانتهى إلى مفهوم للمحاسبة مجرد عن مضامينه التي تضع القضية في نطاق قائمة طويلة من قيم الثورة وأهدافها والتي بدون الالتزام بها في مشوار التغيير الطويل فإن الحديث عن المحاسبة سيتحول إلى مجرد انتقام ساذج يعطل الوعي بعظمة المنجز الثوري الذي استطاع لأول مرة في تاريخ البلاد أن يجعل المصالحة الوطنية جزءا من عملية ثورية شاملة محكومة بمنهج موضوعي في التفكير ومعتمدا العدالة الانتقالية كمصفاة لتخليص المجتمع مما لحق به شوائب وإساءات ومفاسد السلطات المطلقة.
إن إنتصار هذه الثورة، أو بتعبير الكاتب المتميز مروان الغفوري"فكرتها"، هي الفرصة الأخير التي تقدمها الحياة لبلد تعود أن يهدر الكثير من الفرص. وأقول الفرصة الأخيرة لأن كل المؤشرات تدل بوضوح على أن مصير نهوضه وتطوره، ناهيك عن بقائه وإستمراره، مرهون بهذا الانتصار، فالتغيير بصيغته السياسية الحالية يفتح الطريق أمام الانتصار النهائي إذا ما أصغى الجميع بإهتمام إلى إيقاعات الفرصة التاريخية بعيدا عن صخب الذات الذي تعود أن يشوش على النغم الجميل الذي تبعثه هذه الفرص من أعماق لها صلة بالتاريخ الأصيل لهذا البلد الذي ضيعه أهله. الفشل يعني أن يغرق في سديم التفكك والحروب والتخلف، ولا أعقد أن أحداً يستطيع أن يقرأ المسألة على نحو مختلف في ظل المعطيات القائمة.
[والله غالب على أمره]