الخرافة الثانية: لا يوجد فوارق اجتماعية في الجنوب
هل صحيح أنه لا يوجد شرائح اجتماعية في جنوب اليمن كما هو الأمر في شماله؟ ولا توجد فوارق اجتماعية من أي نوع آخر؟ إذا كان الأمر كذلك فما هي قصة وأسباب إلغاء الألقاب في جنوب الوطن؟ وهل شمل الإلغاء المسؤولين والمواطنين على حد سواء، أم اقتصر فقط على أصحاب الوظائف الكبرى؟. ولماذا أزيل لقب الحسني من اسم علي ناصر محمد ولقب البيشي من اسم علي عنتر ولقب الجوفي من اسم عبدالفتاح إسماعيل، في حين احتفظ علي سالم البيض وحيدر العطاس بلقبيهما؟.
الرد التاريخي:
بعد الاستقلال وخاصة بعد حركة 22 يونيو 1969م تقدم بعض الشخصيات في القيادة بمقترح بإلغاء هذه الألقاب القبلية أو المناطقية واستبدالها بالاسم الثلاثي.. أي اسم الأب والجد، بالإضافة إلى اسم الشخص الأول، وكان الهدف من ذلك التحرر من الانتماء القبلي أو المناطقي وتشكيل اندماج وطني في الجنوب الذي خضع للاحتلال الأجنبي على مدى 129 عاماً، وكان حتى عشية الاستقلال يتكون من نحو 23 سلطنة ومشيخة وإمارة، قبل أن توحدها الجبهة القومية في دولة واحدة.
لم يكن القرار إلزامياً على مستوى الأفراد العاديين، بل ترك طوعياً، وحتى على مستوى الوظائف العليا فقد احتفظ البعض بلقبه مثل محمد صالح عولقي الذي شغل منصب وزير خارجية، وسيف الضالعي، الذي شغل المنصب ذاته قبل العولقي، فيما التزم للقرار آخرون مثل علي ناصر محمد وعلي عنتر ومحمد صالح مطيع ومحمد سعيد عبدالله (محسن) الشرجبي، وكثيرون غيرهم .. البعض كانت أسماؤهم أو ألقابهم سابقة لقرار إزالة الألقاب كعبد الفتاح إسماعيل، وقليلون كانوا يعرفون أن اسمه (الجوفي) فلم يكن أحد يهتم كثيراً في الجنوب بالمنطقة أو القبيلة التي ينتمي إليها الشخص بقدر اهتمامهم برصيده النضالي وانتمائه الوطني والقومي.
فيما يخص علي سالم البيض وحيدر العطاس، فلا علاقة بلقبيهما بمنطقة أو قبيلة بل هما من فئة السادة في حضرموت، ولهذا احتفظا به دون أن يكون للأمر أية أهمية.. أو يشكل حساسية.
للأسف الذي أثار هذه المسألة هي السلطة فيما بعد التي اتهمت العطاس والبيض بأنهما من مؤسسة آل البيت (مآب) التي كان يرعاها العاهل الأردني الراحل الملك حسين (رحمه الله).. حيث اتهما بأنهما يسعيان لإحياء حكم الهاشميين في اليمن أما بالنسبة للجنوب فلم يكن شيء من ذلك.
والتغيير في الألقاب لا يعني كثيراً أن الهويات الاجتماعية قد انتهت بهذا القرار، كما لم ينتهِ التخلف التركي بإزالة الطربوش في عهد القائد التركي كمال أتاتورك.
ولقد كان عدد لا بأس به من قادة المحافظات الجنوبية المدنيين والعسكريين من شريحة أو فئة السادة وخاصة من حضرموت أمثال: فيصل العطاس، عبدالله البار، عبود علوي، عمر العطاس، صالح أبوبكر بن حسينون، سالم العطاس، حسين المحضار (عضو هيئة رئاسة مجلس الشعب الأعلى)... إلخ وهو نفسه الشاعر المعروف.
و فيما يخص سالم ربيع علي (سالمين) فلم يكن والده شيخ قبيلة، أو ينتمي إلى مشائخ القبائل، بل إلى فئة أخرى تسمى في الجنوب أيضا بالمشائخ، وبعضهم عبارة عن مُصلحين اجتماعيين يفضون المنازعات بين القبائل أمثال الشيخ عبدالقادر شائع آخر حاكم لولاية دثينة الذي كان والده شيخاً جليلاً، وكان يدخل بفرسه وعصاه ويحمل شارة الولي عمر بن سعيد، وعندما يؤشر بها تتوقف الحرب! وكان ربيع ينتمي إلى هذه الفئة وليس إلى مشائخ القبائل.
غير أن غالبية القيادة كانت من غير السادة والمشائخ.. بل من شرائح المجتمع الأخرى.. لم تكن هناك فوارق حادة ذات اعتبار في أوساط القيادة أو المجتمع في جنوب الوطن آنذاك .. ولم يكن انتماء أي من الذين ذكرناهم إلى السادة أو المشائخ مثار تعليق أو تساؤل في أي وقت من الأوقات، بقدر ما كان المهم الرصيد النضالي للشخص، وفيما بعد كحزب اشتراكي الانتماء الوطني للشخص ومدى التزامه ببرنامج الحزب السياسي وتوجهه الاقتصادي والاجتماعي.. وليس انتماؤه الأسري أو المنطقة التي انحد ر منها.
و يزعم البعض أن انتماء سالمين إلى فئة المشائخ التي يقابلها في الشمال تسمية «الفقهاء» ساعد اجتماعياً على تقاربه مع رئيس مجلس القيادة في الشطر الشمالي آنذاك إبراهيم الحمدي الذي ينتمي إلى نفس الفئة أو الشريحة مع اختلاف التسمية، حيث تسمى في الشمال شريحة القضاة.
وهذا ليس صحيحاً؛ لأن التقارب بين الرئيسين الحمدي وربيع لم يكن له علاقة بانتمائهما الاجتماعي، بل تم على أساس من الوطنية والقومية، إذ كان كلاهما ينتمي إلى حركة القوميين العرب، بالإضافة إلى وطنيتهما وهويتهما اليمنية التي ليستا محل شك قبل أن يصبحا رئيسين لشطري الوطن.
كما جمعت بينهما القضية الوطنية الكبرى، وهي تحقيق الوحدة اليمنية التي كانا يعملان عليها.. الحمدي كان عنده مشروع وطني للتحديث وبناء دولة في الشمال كما هو معروف، وقد أجهض باغتياله عشية زيارته التي كان يعتزم القيام بها لعدن في 11 أكتوبر 1977م، كما أن الرئيس سالم ربيع علي كان على رأس دولة في الجنوب صاحبة مشروع وطني وسياسي واجتماعي.. وهذا التقارب بين الرجلين والنظامين في عهدهما كان أهم الأسباب للتعجيل بالتخلص منهما، بالإضافة إلى عوامل أخرى داخلية وإقليمية ودولية.
و للأسف أخذ البعض من الناس في المحافظات الجنوبية يستدعي الانتماءات القديمة بعد الوحدة، ويستعيد ألقابه المشيخية، ولم يكن ذلك بعيداً بعد حرب العام 1994م حيث شجع النظام مثل هذه الظواهر، وأحيا نزعة الثأرات وغيرها من المظاهر السلبية التي كادت تنقرض من الجنوب، وأحكم قبضته عليه والسعي لخلق واقع قبلي ومناطقي شبيه بذلك الموجود في الشمال مثل إحياء النعرات القبلية والطائفية والمذهبية.
وفي هذا السياق وقعت في يدي نسخة من رسالة مؤرخة في 13 نوفبمبر 2011، وجهها الأستاذ حسين زيد بن يحيى إلى من أسماهم بني عمومته الرئيس علي سالم البيض, الرئيس حيدر أبو بكر العطاس, نائب الرئيس عبدالرحمن علي الجفري.
ويبدو أنه اختار هؤلاء الثلاثة دون غيرهم من قادة المحافظات الجنوبية بسبب الرابط السلالي بينهم، ولكن الأهم من ذلك هو ما تضمنته رسالته من نصائح ذات قيمة عالية حول تسمية الجنوب العربي، وهذا هو موضوع الخرافة الثالثة الذي سنتناوله في مقال الغد.