يتساءل بعض أبناء المحافظات الشمالية لماذا لا يفكر أبناء المحافظات الجنوبية أو يطمحون في حكم الشمال والجنوب معاً مثلما عملت أسرة شمالية واحدة على حكم الشطرين؟.
ويجيب شاهد تاريخي معاصر من جنوب اليمن: لقد كان لدى الحزب الاشتراكي اليمني والنظام في الجنوب قبل الوحدة مثل هذا المشروع لبناء يمن ديمقراطي موحد، ورفع تحقيق هذا الشعار على رأس أولوياته، وكان مشروعه حداثياً لبناء دولة عصرية ومجتمع مدني متقدم، مجتمع ودولة لكل أبناء اليمن دون إقصاء، كما هو حادث اليوم من إقصاء للجنوبيين عن السلطة والقرار والثروة.
كان إخوتنا الشماليون جزءًا من نسيج الحزب والسلطة في أعلى مستوياتهما، أعضاء في المكتب السياسي واللجنة المركزية للحزب ومجلس الشعب الأعلى والمنظمات الجماهيرية وسفراء وأعضاء في السلك الدبلوماسي، وموظفين في أجهزة الدولة العسكرية والأمنية والمدنية... إلخ، ووصل عبدالفتاح إسماعيل - وهو من أصل شمالي - إلى سدة الأمانة العامة للحزب ورئاسة الدولة، ولم يكن ذلك يشكل لدينا حساسية، كذلك لم يكن اختيارهم إلى الهيئات القيادية أو الحكومة يتم على أساس معارضتهم للنظام في الشمال، كما كان الحال في صنعاء، حيث لم يكن يعين في الحكومة إلا من تعتقد بأنه معارض للنظام في عدن.
وعلى العموم لم يكن عددهم يتجاوز الاثنين فقط؛ أحدهم هو الأستاذ عبدالله الأصنج -وزير الخارجية - اتهموه بالعمالة والتآمر والتجسس وحاكموه وحكموا عليه بالإعدام، والآخر وهو محمد سالم باسندوة - وزير خارجية أيضاً - وصل بهم الأمر إلى حد نفي أصله اليمني، وقالوا إنه (صومالي) من زيلع!! كما سمعنا أصواتاً طائفية بغيضة من البعض بأن الجنوبيين بقايا صومال وهنود، وكأن الجنوب أرض بلا شعب لشرعنة السيطرة عليه ونهبه ونهب ثرواته وموارده، وفي ذلك رائحة طائفية بغيضة للنظام القبلي الطائفي.
والمشكلة لا تكمن فقط في الشخصية الشمالية المجبولة على قبول هيمنة الفرد، ولكن تكمن أيضاً في رفض الشخصية الجنوبية لهيمنة الفرد إذا كان هذا الفرد جنوبياً، فبدلاً من أن يقتنص أبناء الجنوب اللحظة التاريخية لمساندة أفراد من بينهم من أمثال قائد اليمن الجديد عبدربه منصور ورئيس وزرائه محمد سالم باسندوة فإن المعارضة لهما في بعض المحافظات الجنوبية أشد من المعارضة لهما في محافظات الشمال مجتمعة. بل إن بعض الناشطين الذين يقتاتون على المتاجرة بالقضية الجنوبية يتمنون عودة صالح بدلاً من نجاح هادي في حكم اليمن؛ لأن هادي في نظرهم قد يبادر لقطع عيشهم عن طريق حل القضية الجنوبية، في حين أن صالح لم يكن جاداً في حلها، ومن المؤسف حقاً أن الجنوبي أكثر قسوة على الجنوبي من غيره.
فمن الملاحظ في تاريخ الجنوب المعاصر منذ ما بعد الاستقلال أن الجنوبيين غالباًَ ما يميلون إلى القيادة الجماعية بدلاً من القيادة الفردية، من خلال مجالس الرئاسة أو المكتب السياسي للحزب، ولكن عندما تأتي لحظة تاريخية نادرة، ويصبح للجنوبيين قائد تاريخي يتسم بالنزاهة ويحظى بشعبية كبيرة، فإن زملاءه في النضال يبدأون في رفضه والتآمر عليه، ولنا في تجربة سالمين 1978وتجربة علي ناصر محمد 1986 خير مثال على ذلك.
هذه الظاهرة تخالف الوضع في الشمال، من حيث أن رجلاً واحداً تمكن من الحكم 33 عاماً رغم سوئه وفشله، وعدم صلاحيته، وقلة شعبيته، في حين أن أفضل وأنزه وأنجح رئيسين في الجنوب جرى التآمر عليهما تباعاً.. هل الانتماء المناطقي لمحافظة أبين له أي دور في ذلك؟ أم أن الصدفة وحدها جمعت بين سالمين وعلي ناصر وعبدربه منصور هادي في محافظة واحدة، ومؤامراة متشابهة؟.
يجيب أحد المخضرمين بأن للفرد دوراً في التاريخ سواء على هيئة أنبياء أو قادة سياسيين أو عسكريين أو أبطال ومفكرين وعلماء، لكن بعد تكون الدولة وظهور المؤسسات لم يعد الفرد المتحكم الوحيد في صناعة التاريخ أو في إدارة شؤون الدولة والمجتمع، بل صارت المؤسسات سواء كانت منتخبة أو معينة هي التي تقوم بهذا الدور دون أن يعني ذلك أنه لم يعد للفرد القائد دور في صناعة القرار، وفي تحديد السياسات وفي إدارة شؤون الدولة والمجتمع حسبما يمنحه له الدستور من صلاحيات سواء في زمن السلم أو في زمن الحرب والظروف الاستثنائية كالكوارث الطبيعية، وهذا للحد من الطابع الاستبدادي للفرد المطلق الصلاحية نتيجة ما تكون لدى الشعوب عبر التاريخ من خبرات وتجارب، وصراعات وحروب.
ولكن بالنسبة للجنوب، ونظراً لأن الثورة كانت شعبية ضد الاستعمار وحكم السلاطين المرتبط به، ولأن التنظيم الذي قاد الثورة والكفاح المسلح الجبهة القومية كانت له قيادته المتمثلة حينها باللجنة التنفيذية والقيادة العامة، فقط آلت قيادة الدولة الجديدة إلى هذا التنظيم بتشكيلاته القيادية، ولم تؤول إلى فرد أو مجموعة أو إلى قبيلة أو منطقة.. وحتى بعد قيام الدولة واختيار النظام الجمهوري الذي يقف على رأس هرمه رئيس جمهورية، فإن السلطة الفعلية كانت بيد اللجنة التنفيذية والقيادة العامة، ولهذا عندما اصطدمت سلطة رئيس الجمهورية باللجنة التنفيذية والقيادة العامة في عهد الرئيس الأول حسم الصراع لصالح هذه الأخيرة التي استبدلت سلطة رئيس الجمهورية بقيادة جماعية، سميت بمجلس الرئاسة الذي تكون من خمسة أعضاء هم: سالم ربيع علي، عبد الفتاح إسماعيل، محمد صالح عولقي، محمد علي هيثم، علي أحمد ناصر عنتر، ثم اقتصر إلى ثلاثة أعضاء فيما بعد هم: سالم ربيع علي، عبدالفتاح إسماعيل، علي ناصر محمد.
وفي مرحلة لاحقة تم الجمع بين منصبي الأمانة العامة ورئاسة الدولة، أو رئاسة مجلس الشعب الأعلى، وكان هذا في عهد رئاسة الرئيس علي ناصر محمد، ثم تم الفصل بين المنصبين بعد أحداث 13 يناير 1986، فأصبح علي البيض أميناً عاماً فحسب، وحيدر العطاس رئيس مجلس الشعب الأعلى أي رئيس الدولة.
وفي كل الأحوال فإن السلطة الفعلية ظلت للمكتب السياسي كقيادة جماعية، لكن كان يبرز على الدوام دور متميز للرئيس أو “القائد التاريخي”، وهذا يعتمد على القدرات والمميزات التاريخية الخاصة لهذا الرئيس أو ذاك، كما في الدور المحوري لشخصية الرئيس سالم ربيع علي أو في الدور والنهج الذي اتبعه علي ناصر محمد خلال الفترة من أبريل 1980 إلى يناير 1986م، الذي حظي بشعبية كبيرة، والذي اصطدم ببعض مراكز القوى في مركز صناعة القرار المكتب السياسي، وسحب نفسه على بقية التكوينات في الحزب والدولة والمؤسسة العسكرية والأمنية.
الأمر في الشمال مختلف تماماً عما كان سائداً في الجنوب، فالنظام الإمامي كان نظاماً ملكياً فردياً مستبداً، وقد ورث النظام الجمهوري الذي ثار على هذا النظام كل مساوئه، بما في ذلك الطابع الفردي للحاكم.
وإذا استثنينا السنوات الأولى التي كانت سنوات حرب من أجل تثبيت النظام الجمهوري بين المعسكر الملكي والجمهوري، وشهد في الوقت نفسه صراعاً في المعسكر الجمهوري نفسه، والسنوات القليلة لحكم الرئيس إبراهيم الحمدي، الذي كان لديه مشروع لبناء دولة وتجربة التعاونيات، والذي أجهض باغتياله، فإذا السنوات اللاحقة ماعدا الفترة القصيرة لحكم الرئيس أحمد الغشمي، قد استتبت لرجل واحد أو رئيس وحيد هو علي عبدالله صالح الذي جمع كل السلطات الفعلية في يده، بالرغم من وجود مؤسسات شكلية لا تنازعه في سلطة القرار وإدارة شؤون الدولة، وأعتقد أن لذلك أسبابه، منها ما هو متعلق بالطابع القبلي العسكري الطائفي للنظام.