ظل الكثيرون يستهينون بقدرات وإمكانيات نائب الرئيس اليمني عبدربه منصور هادي طوال السنوات الثمانية عشر الماضية، وهم على الأرجح معذورون في موقفهم ورأيهم ذاك، فمنصب نائب الرئيس عادة هو منصب بعيد عن الأضواء، ناهيك أن يكون هذا النائب في بلد من بلدان العالم الثالث، أما إن صادف أن كان شخص ما نائباً لرئيس يمتلك شخصية قوية وتتخطفه الأضواء دوماً، فإن هذا النائب يكون بالتأكيد سيء الحظ.
ولعلنا نتذكر نواب رؤساء في عالمنا العربي كانوا من هذا النوع مثل عزت إبراهيم وطه محيي الدين معروف نائبي الرئيس العراقي الراحل صدام حسين ونواب الزعيم المصري الراحل جمال عبدالناصر، وعبدالسلام جلود عندما كان نائباً لمعمر القذافي، وحسني مبارك عندما كان نائباً للرئيس أنور السادات... كانت شخصيات هؤلاء النواب باهتة جداً مقارنة برؤسائهم، لكن بعضهم ممن تولى الرئاسة خلفاً لسابقه كأنور السادات وحسني مبارك أظهر قدرات لم يكن بالإمكان استكشافها وهو في منصب نائب الرئيس... كان الجميع يستهينون بشخص أنور السادات كخلف لعبدالناصر الذي كان ملء سمع الدنيا وبصرها، لكن أنور السادات كان صاحب القرارات الأخطر في تاريخ مصر سواء على صعيد الحرب أم الصلح مع إسرائيل... الأمر نفسه ينطبق على حسني مبارك الذي حكم ثلاثين عاماً بالتمام والكمال وهي تقريباً مجموع السنوات التي حكم فيها كل من عبدالناصر والسادات معاً.
عندنا في اليمن نتذكر كيف تفاجأ الكثيرون بمجيء العقيد إبراهيم الحمدي رئيساً لليمن الشمالي عبر انقلاب سياسي خلفاً لشخصية تاريخية وعالم دين ومثقف وأديب هو القاضي عبدالرحمن الإرياني، وكان الظن الغالب حينها أن شخصية الحمدي ستكون باهتة جداً وسيتم تسييرها من قبل مراكز القوى في الجيش، لكن ما حدث أن إبراهيم الحمدي أصبح الرئيس الأكثر شعبية في تاريخ اليمن المعاصر واستطاع تحجيم القوى التقليدية وأصبح رمزاً لأهم مشروع وطني لبناء دولة القانون في الشمال، لكن الحظ لم يسعفه، فتم اغتياله بعد أكثر قليلاً من ثلاث سنوات على تسلمه قيادة البلاد... وفي جنوب اليمن تولى رئيس الوزراء علي ناصر محمد قيادة البلاد في أبريل 1980م خلفاً لقادة تاريخيين سبقوه، فيما كان هو متهم دوماً بأنه صاحب شخصية ضعيفة وأنه لن يصمد أمام مراكز القوى في الحزب الاشتراكي اليمني الحاكم والجيش العقائدي، لكن الرجل على عكس كل التوقعات قاد أهم التحولات السياسية في اليمن الجنوبي سواء باتجاه توطيد العلاقات مع اليمن الشمالي وباتجاه الانفتاح على دول الخليج وإلى حد ما الغرب، وبلغ الخلاف بينه وبين صقور الحزب أن انفجر الموقف العسكري في 13 يناير 1986م ليثبت أنه كان الشخصية الأقوى والأكثر تأثيراً التي حكمت جنوب اليمن منذ الاستقلال حتى الوحدة.
لست أدري ما إذا كان عبدربه منصور هادي محظوظاً أم لا بتوليه الرئاسة خلفاً لأكثر رؤساء اليمن إثارة للجدل وأطولهم مدة في الحكم وأعمقهم تجذراً في السلطة وواحدا من أكثر رؤسائه كاريزما وسطوة ودهاء... إذ يجمع غالبية اليمنيين على أن علي عبدالله صالح هو الحاكم اليمني الوحيد الذي دان له اليمن كله من أقصاه إلى أقصاه خلال القرون الأربعة الماضية وأنه لم يتح لأي حاكم الفرصة في الملك والسيطرة الكاملة على الحكم مثلما أتيحت له، تماما كما لم يتح لحاكم معاصر الفرص التي أتيحت له في بناء الدولة المدنية والنظام المؤسسي وسيادة القانون فضيعها كلها ولم ينتهز كل الظروف الجيدة التي أتيحت له لإنجاز مثل هذا الأمر الذي كان كفيلاً بتخليده في قلوب وضمائر اليمنيين... لذلك كله فبقدر ما يبدو نائبه عبدربه منصور هادي غير محظوظ نتيجة أنه سيرث تركة صعبة جداً وركاماً ضخمً من الفوضى والفساد والانهيار الاقتصادي فإنه بالقدر ذاته يبدو محظوظاً بأن أي إنجاز سيحققه على صعيد إعادة بناء الدولة وإرساء الأمن والاستقرار وقيادة البلاد نحو بر الأمان وإقامة الحكم الرشيد وتحجيم الفساد وإطلاق الحريات وتحقيق قدر من الاستقرار الاقتصادي ومعالجة القضيتين الجنوبية والحوثية والتقدم في الحرب على القاعدة كل ذلك سيخلده وسيظهره كمنقذ حقيقي لليمن.
وعلى ذلك فالأمر مرهون بالخيار الذي سينتهجه هادي، فهو بين خيارين إما أن يحاول إعادة نموذج صالح أي القائد الذي لا راد لكلامه ولا صوت يعلو على صوته أو أن يحاول بناء نموذج جديد في العلاقة بين القائد وشعبه وأجهزة دولته... وقد يصعب التنبؤ بخياره وإن كنت أرجح أنه سيفضل الخيار الثاني لأنه يدرك أن الثورة الشعبية قد قطعت الطريق كلياً على إمكانية تكرار نموذج صالح، كما أن الإجماع السياسي الداخلي والإجماع الإقليمي والدولي الذي حظي به كرئيس جديد لليمن لن يمكنه من تكرار نموذج صالح الذي لم يستفد من ذات الإجماع أواسط التسعينيات لبناء الدولة المدنية المنشودة واتجه بدلاً عن ذلك لبناء نظام العائلة في ظل صمت داخلي ومعارضة خجولة وقلق متنام - إقليمياً ودولياً - انتهى باليمن إلى أن يكون دولة على حافة الانهيار وأبواب الفشل والتفكك مع بدايات العام 2010م.
مثلما يبدو اليمن اليوم على مفترق طرق وهو على بعد ثلاثة أيام من الانتخابات الرئاسية المبكرة، يبدو كذلك عبدربه منصور هادي على مفترق طرق بين أن يختار أن يكون الشخص الذي انتقل من منصب كبير أبعده عن الأضواء وأخفى قدراته القيادية إلى موقع الرجل الأول لبلد كبير كاليمن أضعفه المشروع العائلي ودمره الفساد اللامتناهي وسحقت روحه الحضارية الفوضى الواسعة التي رعاها النظام المرتحل بذنوبه وحصانته.
ويمكن لهادي بالتأكيد أن يستفيد من القيم الحضارية النبيلة والروح الشعبية الحماسية التي أوقدتها ثورة الشباب واستعادت بها قدراً من روحه التي سحقها الحكم المغادر بفوضويته وفساده ومشروعه الأمني الاستبدادي الذي حالت الثورة بينه وبين أن يكتمل، فالروح الثورية والقيم العظيمة والتضحيات الإنسانية الكبيرة التي قدمها اليمنيون على مدى عام كامل يمكنها أن تشكل للرئيس الجديد زاداً يستمد منه القوة والحزم والصرامة في بناء الدولة المدنية وإنجاز الدستور الجديد ومعالجة آثار الماضي من خلال إنجاز المصالحة الوطنية وقوانين العدالة الانتقالية ليعينه ذلك على طي تلك الصفحة بآلامها وقتامتها والالتفات نحو المستقبل.
لا نريد للرئيس عبدربه منصور هادي أن يكون حاكماً جديداً بأمره يهب المشاريع والأموال كما يشاء ولا نريد أن نسمع أغاني وقصائد تكيل له المدائح ولا نريد أن نرى عشرات الملايين من الصور يتم طباعتها له عند كل مناسبة ولا نريد أن يحيط نفسه بشلة محدودة تتمصلح من علاقتها به وتتاجر بأوامره وتوجيهاته ولا نريد منه أن يكون الرئيس الملهم والزعيم الضرورة والقائد الاستثنائي.
نريد من الرئيس هادي- ببساطة -أن يكون موظفاً لدى شعبه بدرجة رئيس جمهورية يحكمهم بالرضا وبالتشاور المستمر مع مؤسسات الدولة المعلنة وليس عبر مؤسسات خفية عائلية كانت أم حزبية أم مناطقية... نريد من الرئيس هادي أن يصوب اهتمامه نحو عملية إعادة بناء الإنسان اليمني والتنمية البشرية وأن يكون هذا مشروعه الوطني الكبير الذي به يدخل التاريخ، فالدول القوية لا تنهض إلا بشعوبها وليس بقادتها ونخبها فقط، والحاكم القوي لا يكون قوياً إلا بمعاونين أقوياء وحكومة قوية لأن ضعف أعوانه وحكومته ينعكس بالضعف عليه وهو ما لم يدركه سلفه ولعل مدرسته السياسية لم تتح له في الأساس القدرة على إدراكه... فهل يدرك هادي أخطاء سلفه فيتجنبها؟!