أبدى كثيرون استغرابهم في الوطن العربي من فوز الرئيس اليمني الجديد عبدربه منصور هادي بنسبة 99% في الانتخابات الرئاسية المبكرة التي جرت في اليمن الثلاثاء الماضي 21 فبراير واعتبروها عودة إلى عهود سابقة مظلمة في المنطقة العربية عرفت بفوز القادة فيها بمثل هذه النسبة... وبالتأكيد فإن هؤلاء المتابعين للشأن اليمني على اختلاف اتجاهاتهم وتخصصاتهم معذورون في موقفهم لكنهم عند قراءة الوضع اليمني والملابسات التي حدثت على الساحة اليمنية منذ اندلاع الثورة الشعبية الشبابية في يناير من العام الماضي 2011م قد يتفهمون لماذا حقق عبدربه منصور هادي هذه النسبة الكبيرة في عملية انتخابية ليس فيها تنافس!
الأسلوب اليمني في الوصول بالثورة الشعبية إلى بر الأمان وتجنيب البلاد العنف برعاية إقليمية ودولية يبدو أنه أصبح أنموذجاً يحتذى، فقد لفت نظري حديث الرئيس التونسي المنصف المرزوقي في افتتاح مؤتمر أصدقاء سوريا في العاصمة التونسية الأسبوع الماضي عن تطبيق النموذج اليمني في سوريا... ولا أظن أحداً يشك في شخص الرئيس التونسي الذي جاء من صفوف المناضلين الشرفاء وتعرض للاعتقال والنفي سنوات طويلة بسبب مواقفه السياسية من نظام الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي، ويكفي الثوار اليمنيين فخراً أن يشيد المرزوقي الذي كانت بلاده أول من أوقد شرارة ثورات الربيع العربي وهرب رئيسها السابق ولم يحصل على حصانة وتم محاكمته غيابياً بالنموذج اليمني ويطالب بتطبيقه على سوريا كمخرج سياسي لتجنيب هذا البلد العربي الهام المزيد من الدماء والوصول بثورته إلى بر الأمان بأقل قدر من التضحيات.
النموذج اليمني هذا هو الذي أدى إلى حصول الرئيس اليمني المنتخب عبدربه منصور هادي على نسبة 99% في الانتخابات غير التنافسية التي جرت الأسبوع الماضي، لأن التوافق السياسي الذي حدث بين القوى السياسية اليمنية حوله كنائب للرئيس وكشخصية مقبولة لدى مختلف الأوساط لتولي رئاسة اليمن خلال الفترة الانتقالية الممتدة لعامين ألغى مسألة التنافس الانتخابي لهذه الدورة الرئاسية الاستثنائية والانتقالية بحسب المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية التي توافق عليها الجميع وأقرها المجتمع الدولي عبر قرار مجلس الأمن رقم 2014 وتم التوقيع عليها في الرياض في 23 نوفمبر الماضي من قبل الرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح وطرفي المعادلة السياسية الرئيسيين وهما الحزب الحاكم المؤتمر الشعبي العام الذي يعتبر الرئيس هادي النائب الأول لرئيسه وأمينه العام والمجلس الوطني الذي يضم قوى المعارضة الرئيسية والذي يعتبر رئيس الوزراء الحالي محمد باسندوة رئيسه... وإذن فإن الانتخابات الرئاسية المبكرة كانت أقرب منها للاستفتاء على اختيار هادي لقيادة الفترة الانتقالية بغرض منحه الشرعية الشعبية لتعطيه القوة المطلوبة في إنجاز مهام الفترة الانتقالية، وقد كان بإمكان المبادرة وآليتها أن تنصا على انتخابه من خلال مجلس النواب مثلاً لكن عدة عوامل حالت دون ذلك منها رغبة الرئيس السابق صالح أن يخرج من السلطة بشكل ديمقراطي مقبول أي عبر انتخابات ومنها رغبة الرئيس الحالي هادي في الحصول على قوة دفع شعبية تمكنه من إحداث التغيير المنشود ومنها رغبة أحزاب المعارضة التي فضلت تجنب احتمالات تعرض الرئيس الجديد لأي ابتزاز سياسي من الأغلبية النيابية في حال تم انتخابه من البرلمان خاصة في ظل الصوت العالي لصقور المؤتمر وتأثيرهم في قراره.
وفي حالة كحالة الاستفتاء الانتخابي الذي جرى الثلاثاء الماضي كان المرشح الرئاسي التوافقي سيفوز بأي عدد من الأصوات مهما كانت قليلة، وكان هناك بلاشك قلق لدى الأوساط السياسية وبالذات أحزاب اللقاء المشترك التي كان حصول هادي في نظرها على أكبر عدد ممكن من الأصوات أمراً في غاية الأهمية، ولذلك نشطت في أوساط الناخبين وعملت مع شباب الثورة لإقناعهم بأهمية حصول المرشح الرئاسي على عدد من الأصوات يفوق ما حصل عليه الرئيس صالح في انتخابات 2006م وتقدر بأكثر قليلاً من أربعة ملايين صوت... كان للأمر في نظر أحزاب اللقاء المشترك التي تشارك في الحكومة بنصف مقاعدها أهمية كبيرة ليس فقط لأن حصول هادي على عدد أكبر من الأصوات سينزع المشروعية الشعبية تماماً عن صالح بل لأنه سيعطيه قوة سياسية كبيرة ومشروعية شعبية قوية في وجه من تبقى من نظام صالح وبالذات أقاربه في المواقع القيادية في الجيش والأمن... فصالح ظل حتى الشهر الماضي يتحدث عن مشروعيته الشعبية وحصوله على أربعة ملايين صوت، بل إنه حتى لحظة عودته فجر السبت الماضي من رحلته العلاجية في الولايات المتحدة كان مازال يتحدث عن أن ما جرى كان انقلاباً ومؤامرة خارجية وأشياء من هذا القبيل!
لذلك كله كانت المفاجأة الحقيقية والكبرى والتي لم يتوقعها أكثر المراقبين تفاؤلاً تتمثل في الإقبال الكبير على التصويت لصالح الرئيس هادي من قبل المواطنين، وبشكل فاق الحدود التي رسمتها اللجنة العليا للانتخابات التي كانت تضطر في ذلك اليوم إلى إرسال مزيد من بطاقات الاقتراع بطائرات الهليكوبتر إلى أكثر من محافظة بسبب نفادها نتيجة الإقبال الكبير على التصويت... لقد أدرك اليمنيون بحسهم الحضاري والسياسي الراقي أهمية إعطاء مشروعية شعبية كبيرة للمرشح التوافقي لتقوية موقفه السياسي بما يمكنه من إخراج البلاد من محنتها وتحقيق الانتقال السلمي للسلطة عبر عملية انتخابية مميزة.
وبالتأكيد فلم يكن هادي يمتلك آلة قمعية مثلما كان يحدث في عراق صدام حسين وسوريا حافظ الأسد ونجله ومصر حسني مبارك وتونس زين العابدين بن علي ليدفع بها الناس للتصويت له... فهادي خاض الانتخابات وهو لا يستطيع تحريك وحدة عسكرية أو أمنية واحدة نتيجة هيمنة أقارب صالح عليها، ومن ثم فلم يخرج للتصويت له إلا من كانوا يريدون التغيير فعلاً ويريدون إنهاء عهد صالح بينما جلس الكثير من أنصار هذا الأخير في بيوتهم لأنهم يعلمون أن نتيجة الانتخابات محسومة أساساً سواء بمليون صوت أو ستة ملايين صوت... ومن بين ما يقارب عشرة ملايين ناخب يحق لهم التصويت خرج ستة ملايين ونصف تقريباً ليقولوا نعم لهادي وهذا ما أعطاه هذه النسبة الكبيرة... ولذلك يمكن القول إنه أول مرشح توافقي يحصل على هذا الكم من الأصوات بإرادة شعبية حرة لم يكن فيها أي قسر أو إرغام أو تخويف وأعطته مشروعية غير مسبوقة جعلت من خطابه الأول في مجلس النواب عقب أدائه اليمين الدستورية باعثاً على التفاؤل وراداً لجميل الذين أعطوه أصواتهم من الحالمين بيمن أفضل وهم الأغلبية.