صباح الإثنين الماضي 27 فبراير تحدث علي عبدالله صالح للمرة الأخيرة بصفته الرئاسية في احتفال رمزي بدار الرئاسة بغرض توديعه واستقبال الرئيس الجديد عبدربه منصور هادي... كان صوت الرئيس السابق متهدجاً ويبدو عليه التأثر والانفعال في بداية خطابه القصير فهو الذي ظل يتحدث دوماً من هذا المكان لسنوات طويلة بصفته الرجل الأقوى في اليمن والذي كان مجرد زحزحته منه أضغاث أحلام لا أكثر... لعله لم يكن يتوقع مطلقاً أن يقف هذا الموقف مضطرا رغم ثقتي – من خلال معرفتي الشخصية – أنه كانت تأتيه لحظات تجلي يتمنى أن يقف مثل هذا الموقف بإرادته لولا أنه قطع الطريق على نفسه بقرار التمديد وتطلعات التوريث وضغوط أصحاب المصالح المحيطين به من أقارب وشخصيات سياسية واجتماعية متنفذة كانت ترى في ابتعاده عن السلطة نهاية محتمة لها، فلم تتح للرجل أن يختار ختام حياته السياسية بالشكل الذي كان يظهر أحيانا في لحظات التجلي أنه يتمناه، وأنا هنا أشير للحظات إنسانية عابرة كان يبرز تطلعه فيها لمثل هذا الختام رغم إدراكي المسبق – حينها – لصعوبة تحقيقه والذي عبرت عنه إحدى المرات في مقال منشور في موقع الجزيرة نت في عام 2005م!
لم يستطع الرئيس السابق أن يخفي تأثره وهو يلقي خطاب الوداع، وبدا في حالة إنسانية تبعث على التعاطف كثيراً بسبب إدراك الجميع أنه فعل ذلك مضطراً وليس بإرادته... فضغوط المتنفذين المتمصلحين من وجوده في السلطة دفعته للانتحار السياسي بموافقته على إعلان حزبه التمديد له من خلال تعديل الدستور في شهر ديسمبر 2010م، وبالقدر نفسه فإن ضغوط غالبية الشعب مدعوماً بمساندة نادرة من المحيط الإقليمي والمجتمع الدولي دفعته مضطراً لإنهاء حياته السياسية ومغادرة السلطة قبل انتهاء دورته الانتخابية بعد نجاحه في فرض شروطه وهذا حفظ له بعضاً من ماء وجهه وجنب اليمن حرباً طاحنة في الوقت نفسه وهذه الأخيرة محسوبة له بكل تأكيد... لكن مشهد تسليم السلطة – أيا كانت ملابساته – كان مشهداً استثنائياً في الذاكرة اليمنية سيخلد فيها لأزمان طويلة باعتباره الأول من نوعه في اليمن وباعتباره مشهداً نادراً في الدول العربية التي تسلط العسكر على حكمها طوال العقود الماضية... وكان خطاب الرئيس السابق علي عبدالله صالح هادئاً وبعيداً عن الاتهامات والتوتر ولعل ذلك كان ناتجاً عن قرار رئيس الحكومة ووزراء وقادة أحزاب اللقاء المشترك عدم حضور ذلك الاحتفال، ففي الأغلب كان حضورهم سيؤدي إلى توتر الرئيس السابق وسيدفعه للانفعال، خاصة أن تصريحاته النارية التي أطلقها عند عودته قبل يومين فقط من الاحتفال لم يكن تأثيرها قد انتهى بعد، إذ أرجع تخليه عن السلطة لمؤامرة خارجية واعتبرها انقلاباً وغير ذلك من الاتهامات مما وتر الأجواء بينه وبين الرئيس المنتخب عبدربه منصور هادي، ودفع الأطراف الخارجية لتوجيه لوم شديد له، ولذلك كان من المنطقي أن تقاطع أحزاب المشترك الاحتفال وتترك للرجل راحته دون داع لأن يستفزه حضور ممثليها للحظة تعتبر الأكثر ضعفاً في حياته وتعتبر في نفس الوقت تتويجاً لنضالها الطويل ضده!
اختار الرئيس علي عبدالله صالح لنفسه أفضل النهايات الممكنة في ربيع الثورات الشعبية العربية التي تفجرت دون سابق إنذار، فنظرائه إما في المنفى أو السجن أو عالم الموتى، أما هو فقد خرج بقدر معقول من الشروط حاصلا على حصانة من الملاحقة القضائية محتفظا بأمواله وحريته مستبقيا أفراد عائلته في مواقعهم – رغم أنه بقاء مؤقت – ورغم أن هذه الشروط لم تأت نتيجة ذكاء وبراعة سياسية فإنها كانت محل قبول من القوى السياسية والجوار الإقليمي والمجتمع الدولي تجنيباً لليمن من مخاطر الحرب والصراعات العسكرية، وكانت تلك الشروط بالنسبة لتلك الأطراف خيراً من دخول اليمن في متاهة الصراع غير المعروف نهايته... كانت هذه القوى الداخلية والأطراف الخارجية تنظر لهذه الشروط باعتبارها الرقصة الأخيرة لصالح على رؤوس ثعابين الداخل والخارج، بل والرقصة الأخيرة لأي حاكم في اليمن الذي لن يحتمل مجيء راقص آخر لأن الرقص المستمر طوال العقود الماضية أضاع على هذا البلد الفقير فرصة بناء الدولة ومؤسساتها وسيادة القانون، ولا يمكن أن تسمح القوى الوطنية والجوار الإقليمي والمجتمع الدولي لهذا العبث أن يتكرر مرة أخرى.
في تقديري كقارئ سياسي أن علي عبدالله صالح ظاهرة لن تتكرر في التاريخ اليمني على المستوى القريب بكل جوانبها الإيجابية والسلبية، فقد دان له اليمن طولاً وعرضاً كما لم يحدث مع أي حاكم آخر منذ مئات السنين وحانت له فرص عظيمة لبناء دولة قانون وعدالة اجتماعية وحرية ومساواة بل وإقامة دولة مدنية أضاعها جميعاً بسبب أن المشروع الخاص ظل يتطور كلما دانت له البلاد أكثر، وعندما استحكم المشروع الخاص على تفكيره بدأت الأمور تنفلت من يديه على الصعيد العام فيما هو مهتم بتقوية الحرس الجمهوري والأمن المركزي والقوات الجوية وشراء صفقات أسلحة لا تنتهي لها ظاناً أن اليمنيين سيخضعون لقواته التدميرية... لكن ما كان يحدث كان يبعث على الاستغراب، فكلما زادت إمكانيات قواته التدميرية زادت هيبة الدولة ضعفاً، ومع مرور الوقت كانت النهايات المؤلمة تتبدى واضحة لكل ذي بصيرة لكن الرجل لم يكن قادراً على تصديق أن حكمه في طريقه للزوال حتى من قبل اندلاع ثورات الربيع العربي.
واليوم ينبغي على الرئيس الجديد عبدربه منصور هادي أن يتعلم من دروس سلفه وألا يطمح لتكرار نموذج علي عبدالله صالح بل عليه أن يطمح لتخليد نفسه بالشروع الجاد في بناء دولة القانون... الدولة المدنية التي ضحى شباب اليمن من أجلها، ولازالوا على استعداد للتضحية كذلك... وعليه أن يدرك أن الظروف الداخلية والخارجية لم تعد تسمح لأحد مهما كانت قوته ومشروعيته بالرقص مرة أخرى على رؤوس الثعابين أو بالعبث بأموال الدولة وإنفاقها طولاً وعرضاً لشراء الولاءات... إنه أمام لحظة تاريخية فارقة وينبغي أن يكون لديه من الفطنة والذكاء ما يمكنه من التقاطها بحصافة، فهو ليس محتاجاً للصبر مثل أنور السادات لسبعة شهور ونصف حتى يستبعد مراكز القوى لأنه يمتلك مشروعية وطنية وإقليمية ودولية غير مسبوقة لم يكن السادات يمتلكها في حينه، وهاهي قراراته الأخيرة الصادرة قبل أمس بخصوص عدن والمنطقة الجنوبية تعطي الأمل ببداية موفقة يستحق التحية عليها.