تدور تساؤلات كثيرة اليوم في اليمن، بعد طي صفحة حكم الرئيس علي عبد الله صالح، عن شكل ومستقبل العلاقات اليمنية الخليجية، فهذه العلاقات التي تراوحت بين الاستقرار والاضطراب طوال عهد صالح، تحتاج لإعادة صياغة على أسس صحيحة متوازنة، تكفل استمرارها خلال السنوات القادمة في إطار مستقر متصاعد باستمرار نحو الأفضل، لا يقبل العبث بها أو تحويلها إلى ورقة سياسية داخلية لأي بلد من بلدان الجزيرة والخليج، أو التعامل معها بصورة براغماتية بين اليمن والدول الخليجية.
لقد أكدت حقائق التاريخ والجغرافيا والوقائع السياسية، بما لا يدع مجالا للشك، أن مصالح اليمن ودول الخليج هي في استقرار هذه العلاقات واتخاذها مسارا دائما نحو الأفضل.. ويبدو لي كمتابع ومهتم بمسار هذه العلاقات، أن الثورة الشعبية اليمنية التي انطلقت في العام الماضي وتوجت هذا العام بإبعاد الرئيس صالح عن الحكم، ستشكل منطلقا ليس فقط في إعادة بناء الدولة اليمنية، بل منطلقا أيضا لإعادة صياغة العلاقات اليمنية مع العالم كله، بعد أن تم تدميرها في الأعوام الأخيرة نتيجة غياب أي رؤية استراتيجية حقيقية من الجانب اليمني لإدارتها، إذ تم التعامل مع هذه العلاقات في إطار سياسات الرقص على رؤوس الثعابين الداخلية والخارجية، التي اتسم بها عهد الرئيس السابق علي عبد الله صالح.
ولعل الرئيس صالح لم يصدم من الناحية السياسية بشيء، قدر صدمته بموقف دول الخليج منه ومن حكمه خلال الثورة الشعبية اليمنية، فالرجل كان يعتقد أن هذه الدول ستصطف معه ضد ثورة الشباب، خاصة بعد أن ظل طوال مجريات الثورة يتحدث دون كلل أو ملل عن أن الإخوان المسلمين والقاعدة هم من يقف وراءها، في محاولة ليس لتخويف دول الخليج فقط بل العالم كله..
ولست أدري كيف فارق صالح ذكاءه المعتاد وهو يحاول تسويق تلك الخدعة السياسية، التي يمكن أن تنطلي على الجهلاء من أتباعه وليس على شعب بأكمله، ومن باب أولى ليس على أنظمة تعرف كل ما يدور في اليمن وتتابع كل صغيرة وكبيرة فيه، بما في ذلك العلاقات السياسية الداخلية بين مختلف الأطراف وطبيعة ومواقف تلك الأطراف.
ولم يكتف صالح بتخويف دول الخليج من الثورة الشعبية، بل ذهب لمحاولة زرع الشقاق بشكل ساذج بين دول الخليج نفسها، عندما شن حملة إعلامية وسياسية على دولة قطر، متهما إياها بأنها وراء المبادرة الخليجية وهو يعلم علم اليقين أن نصوص المبادرة جاءت بناء على طلبه هو في الأساس، وذهبت لدول الخليج بعد أن تم التوافق عليها مع السفير الأميركي في صنعاء وتبنتها دول مجلس التعاون بشكل جماعي.
وبالتأكيد لم تتأثر دول الخليج بهذا الأسلوب المثير للشفقة، وتعامت عنه وواصلت جهودها في اتجاه الضغط لرحيل صالح عن الحكم، وهو الأمر الذي ظل يتشكك في جديتها فيه.. فهو كان يعتقد أنها ستعطيه الغطاء السياسي اللازم لقمع الثورة، وظل يتصور أنها لن تفرط فيه مطلقا على اعتبار أنه كان يطرح دوما أن البديل عنه هو تفكك اليمن وانتشار القاعدة وسيطرتها على محافظات بأكملها، وتمدد الحركة الحوثية المدعومة من إيران شمال اليمن، وسيطرة الإسلاميين على الحكم.
لكن يبدو أن دول الخليج وصلت إلى قناعة كاملة بأن استمراره في الحكم هو الذي يمثل الخطر الحقيقي على استقرار اليمن والمنطقة، وهي بالتأكيد كانت محقة في ذلك، خاصة مع تدهور وتردي أدائه السياسي داخليا وخارجيا، منذ بدء المواجهات العسكرية مع الحوثيين عام 2004 وسعيه لإبقاء هذا الملف مفتوحا دون حسم، لأسباب ستتضح مع مرور الوقت، إلى جانب تصاعد نشاط الحراك الجنوبي الذي ظل بعض فصائله يدعو للانفصال علنا، وهو ملف آخر أبقاه صالح مفتوحا دون أي معالجات جادة، إلى جانب ملف القاعدة المفتوح منذ عام 2000.
ومنذ ذلك الحين ظلت العلاقات اليمنية الخليجية تتذبذب، بين تزايد الشكوك حول جدية توجهات نظام صالح في إجراء إصلاحات سياسية واقتصادية تعيد الأمن والاستقرار إلى اليمن، وبين الحيلولة دون سقوط نظامه قدر الإمكان فيحدث ما تتخوف منه دول الخليج، خاصة في ظل غياب البديل الواضح القادر على إغلاق جميع تلك الملفات.
التزمت دول الخليج بتقديم ما يقارب أربعة مليارات دولار في مؤتمر المانحين لليمن، الذي انعقد في لندن أواخر عام 2006، لكن سوء الإدارة الحكومية اليمنية وقصورها واستشراء الفساد وغياب الرؤية الواضحة تجاه حل الإشكاليات الداخلية العالقة، جعل هذه المبالغ تراوح مكانها ولم يذهب منها إلا النزر اليسير..
كان هناك إحساس دائم بأن نظام صالح غير جاد في الوفاء بالتزاماته السياسية والاقتصادية والأمنية، لكن حال دول الخليج كان مثل حال القوى السياسية الداخلية والكثير من الشخصيات الوطنية، التي كانت تجد نفسها مضطرة للتعامل مع نظام صالح لأنها غير قادرة على إيجاد البديل، خاصة في ظل سيطرة عائلته المسيطرة على أهم القوات العسكرية والأمنية وأكثرها تطورا وعتادا.
وهكذا ظلت خيارات دول الخليج في التعامل مع نظام صالح تضيق شيئا فشيئا، حتى بلغت الحلقوم مع حادثة الطالب النيجيري عمر الفاروق أواخر العام 2009، واستنفار الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، واصطفاف دول مجلس التعاون إلى جانب حلفائها الدوليين في ضرورة حسم الأوضاع المضطربة في اليمن.
وعلى الفور تبلور مشروع مجموعة "أصدقاء اليمن"، الذي كان البداية الفعلية لوضع نظام صالح في حالة أشبه بالوصاية، مع بلوغ كل تلك الدول حالة اليأس المطلق من قدرته على إجراء أي إصلاحات جدية في البلاد على مختلف الأصعدة، فيما لم يستطع الرجل أن يقتنع بأن خياراته في المناورة قد ضاقت إلى أقصى حد، ولم يستطع إدراك أن مرحلة الرقص على رؤوس الثعابين الداخلية والخارجية على السواء، قد اقتربت من نهايتها.
وهكذا دخل اليمن في مرحلة جديدة في علاقاته الخارجية، وتحديدا مع دول مجلس التعاون الخليجي.. وهذا يتطلب وقفة أخرى لمزيد من القراءة لواقع هذه العلاقات، مع إعطاء مساحة أكبر للعلاقات اليمنية السعودية التي تشكل الركيزة الأساسية في العلاقات اليمنية الخليجية.