[esi views ttl="1"]
آراءأرشيف الرأيالفكر والرأي

القاعدة وثمن المصالح الأمريكية في اليمن!

هذا الملف الغامض الذي تزهق فيه أرواح الناس وتنتهك أعراض البلدان وحقوق الانسان، وعن طريقه تتدخل أمريكا في كل الحياة.. أمريكا بطل يلاحق كائنات وهمية أو مخلوقا قادما من خارج الكوكب.. يتقاتلان، والناس في طريقهما كالنمل يتحطمون.. أفغانستان وباكستان دولتان تم تدميرهما، وانتهاك كل شيء فيهما في طريق الحرب على القاعدة، وباكستان هي الأقرب إلى التخوف والمقاربة عند الحديث عن اليمن ..

أكثر من 100 جندي يمني استشهدوا الأسبوع الماضي في محافظة أبين.. هذه الجريمة صنعت أكثر من 100 مأتم في أكثر من 100 قرية يمنية، وقد يصل عدد اليتامى والأرامل والمعوقين إلى 1000 يمني.. والرواية أن مجموعة من المسلمين المتطرفين هم من صنعوا كل هذا بدافع عقدي بحت.. وهكذا يدفع اليمنيون ثمن العلاقة مع “الغوريلا”.. وهكذا يموت الناس وليسوا متأكدين من هوية الجاني أو دافع القتل..

يأتي البعض فيقول إن القاعدة من بقايا النظام، وإن للعملية علاقة بإقالة قائد المنطقة العسكرية الجنوبية مهدي مقولة ومن هذا القبيل.. هذا ليس بعيداً، لكنه ليس كل شيء.. من السذاجة أن نصدق أن واشنطن التي تحكم العالم غبية إلى الدرجة التي سوف تسمح فيها لأيٍ كان باللعب على أخطر ملف توجد فيه أمريكا، وهو ملف الإرهاب.. ناهيك عن أن الطرف هذا هو علي عبدالله صالح الذي يعرف أن أمريكا قادرة على اصطياده بأي لحظة هو أو أيٍ من أقاربه، ونجل صالح هو قائد القوات المجهزة أمريكياً لمكافحة الإرهاب، والأمن القومي جهاز تشرف عليها المخابرات الأمريكية وقد كان فعالاً في محاولة إجهاض ثورة شعب، ملؤها الجيش والقبائل والمواطنون.. فكيف به لا يفعل شيئاً في مواجهة القاعدة؟!

قتال أو قتل من طرف واحد فقط، مئات اليمنيين لقوا حتفهم خلال الشهور الماضية بهذا القتال، وأمريكا في كل تفاصيل اليمن بحجة القاعدة.. تريد من أي نظام يخلف علي عبدالله صالح أن يضمن لها محاربة القاعدة، تريد أن يكون الجيش مفصلاً للحرب على القاعدة، تريد أن تتدخل في الإعلام لتتأكد من أنه لا يخدم القاعدة، تريد من الدستور أن يحقق محاربة القاعدة، تريد من المناهج الدراسية والخطط والبرامج والندوات وكل شيء أن يحارب القاعدة.. أجهزة الأمن يجب أن تشرف عليها الولايات المتحدة حتى لا تستطيع القاعدة السيطرة عليها وكذلك الجيش.. نحن نموت من أعداء كُثر، ومصالح أمريكا تقتضي أن تعارض حتى مصالحك..

بطريقة ما، تتحكم الولايات المتحدة العظمى بدقة أو بغباء مع هذا الملف.. ولو عدنا إلى ما قبل القاعدة لرأينا أشياء أخرى كانت في الواقع، كالسيادة والهوية الوطنية.. ومع تصاعد ملف القاعدة كانت هناك الكثير من الأصوات التي توضح للناس مثل هذه الأسئلة وتفكك بعض الأطروحات.. وشيئاً فشيئا، ساد الغموض، وتستطيع الولايات المتحدة تتويه الباحث في هذا الملف وتوهمه بمخاوفها الحقيقية من الإرهاب والقاعدة، لدرجة أن الباحث المتخصص في شؤون الإرهاب لا يعطيك شيئاً؛ لأنه تعامل مع التفاصيل وابتعد عن الأصول. وهذا ليس فقط مع الباحث، بل مع الحكومات والمسؤولين ومع الأعداء أنفسهم.. تم إيهام عناصر القاعدة ومنظريها بخطورتهم عليها.. ولذا فهم يقدمون حياتهم ضامنين “الجنة” و”عزة الأمة”، ويعتقدون أنهم يهزون عرش الاستبداد العالمي دون أن يعلموا أنهم في خدمته، ويتحركون وفق برامجه..

لا ننكر بأن هناك قاعدة ومتشددين يهددون أمن أمريكا، وهذا هو الواقع.. يظل السؤال بعد ذلك: هل هي كما يصورون لنا فقط؟ أين مقدرات الولايات المتحدة وفي طريقها البلدان والشعوب، وهي تحارب القاعدة، أم أن هذا الملف يتم استثماره؟.. بل إن السؤال ما المقصود بالحرب على الإرهاب والقاعدة، هل يقصد به أولئك المسلحون والإرهابيون أم أنه يشمل حتى أحلام الشعوب؟..

على افتراض أنه لم يكن هناك إرهاب ولا قاعدة، كيف كانت طبيعة العلاقات العربية الأمريكية؟.. نرى الآن كل مصالح أمريكا وتدخلاتها وعلاقاتها مكلفة وغير أخلاقية ولا آدمية التي اختصرها الكاتب الكبير محمود ياسين، عندما شبهها بالعلاقة الجنسية مع الغوريلا.. “لن تتركك حتى تقتلك أنت أو تشبع هي”.. وأضاف محمود: من يشبع الغوريلا؟.. أمريكا لها مصالح وأعداء في كل مكان ومن يستطيع إرضاءها وإشباع مصالحها؟.. كيف كانت العلاقة مع أمريكا بدون القاعدة، هل كان طبيعية؟..

تبدو هذه التساؤلات كأنها متحاملة أو عفا عليها الزمن وبينتها الحقائق والوقائع.. وهذا وهم.. عندما نتحدث عن الثورة أو عن التمرد الحوثي أو عن الفقر وغيره، فإن كل شيء أمامنا ملموس ونعرف أطرافه وأحداثه وأوصافه وشخوصه، وتظل القاعدة ملفاً غامضاً يحق لنا التساؤل والتشكيك به بغض النظر عن حقيقته من عدمها، هناك فراغات تحتاج إلى امتلاء.. مشكلتنا أننا نندمج بالتفاصيل إلى أن نظلم عقولنا، كأن يدفع الإنسان موقفه من علي عبدالله صالح ونظامه إلى رمي تهمة القاعدة إليه فقط، وذلك لإشباع عدم قدرته على الإيمان بما يقوله الإعلام عن القاعدة..

الأقرب إلى الاستيعاب، أن الإرهاب واقع لكنه ليس بعيداً تماماً عن السيطرة الأمريكية، أو أنه ليس كل ما تسعى الولايات المتحدة للسيطرة عليه.. تواجه الولايات المتحدة الأمريكية في هذا الملف احتمالات مستقبلية وليس فقط عددا من الجماعات المسلحة التي تخطط لمهاجمة المصالح الغربية.. ومن خلال التوغل الأمريكي في التفاصيل الأمنية والعسكرية للبلدان والمطارات والموانئ، يتم التحكم بالكثير من الأمور الاقتصادية والسياسية ووضع سقف لأحلام الشعوب، واحتمال تكون مقاومة شعبية للسيطرة الأمريكية على المدى المنظور..

يستطيع يمن ما بعد علي عبدالله صالح أن ينجح ويتفوق في كافة المجالات وعلى مختلف الصعد.. فقط لو أنه بقي تحت إرادته. ولا شك أن الرئيس عبدربه منصور هادي يدرك أولوياته، ويعلم أنه ما كان هناك من داعٍ لأن يحشر الإرهاب في خطابه بمجلس النواب أثناء أداء اليمين الدستورية.. كان واضحاً أنه إرضاء لسعادة السفير مقابل جهوده الطيبة في ملفات أخرى. بالإمكان أن يستفيد اليمن استفادة كبرى من موارده البحرية والبرية، فقط إن لم تكن أمريكا أو غيرها قد سيطرت وتحكمت بالموانئ والجزر اليمنية لمواجهة القاعدة التي تتوسع حالياً بالقرب من أهم الممرات الدولية.. وفيما لو كانت عدن أو باب المندب هي الهدف فإنه ليس هدفا إرهابياً محلياً بحتاً.. ولن يكون بإمكان اليمنيين الاستفادة من كل أراضيهم في اليمن الجديد..

لدينا أولولات وطنية مختلفة؛ المواطن يموت جوعاً ويحترق عطشاً في الفقر، لدينا ثورة تريد تحقيق أهدافها، بحاجة إلى بنية أساسية للدولة من خلال إعادة هيكلة الجيش وفرض سيطرة الدولة، وبحاجة إلى الكثير والكثير.. وكل هذا معروف، وخارج عن الإرادات والملفات الوطنية أطلت القاعدة بنفسها أولوية لتفسد الخطط والآمال..

ليس الشعب اليمني قطيعاً حتى لا يحسب له أي حساب، اليمنيون يفهمون مصالحهم وقادرون على مواجهة أي جماعة إرهابية بدون كل هذا العناء، مطلوب من الولايات المتحدة وشركائها في محاربة الإرهاب التوضيح للناس هذا الإرهاب بواقعية.. ولا لوم للإعلام، لأنه قوة تأثيره من عدمها ترتبط بالسيطرة عليه بطرق مباشرة أو غير مباشرة.. لكن هناك مسؤولية مهمة تقع على عاتق الإعلام ومعه منظمات المجتمع المدني وجميع الفعاليات الشعبية بأن تلعب أدواراً مختلفة في تبيين الحقائق وإثارة هذه القضايا المرتبطة بأرواح الناس ومصائر البلدان.. هذه الأدوار الشعبية والمؤسسية بإمكانها أن تخفف الضغوط على السياسيين الذين لا يستطيعون النطق بالحقائق، بعد أن قطعوا الالتزامات.

زر الذهاب إلى الأعلى