آراءأرشيف الرأيالفكر والرأي

جمعة الكرامة... شهادة من زاوية معاناة شخصية!

كان كل شيء يوحي بأن تلك الجمعة ستمضي بهدوء كسابقاتها... الليلة السابقة لها شهدت لقاءً بين الرئيس علي عبدالله صالح وبعض قادة المشترك من أجل الخروج بحل سياسي يجنب البلاد إراقة الدماء واحتمالات الصراع المسلح، بل وكان التفاوض قد وصل إلى مرحلة تشكيل حكومة وطنية سيتبعها إجراءات تتعلق بتعديلات دستورية وربما انتخابات رئاسية مبكرة... انتهى ذلك اللقاء على أساس أنه سيتواصل في اليوم التالي (الجمعة) ولم يكن أولئك القادة يعلمون بما يحاك في الخفاء، لذلك بدوا مطمئنين ومقتنعين أن الرجل يبدو جاداً في رغبته بالوصول إلى حل سياسي رغم غليان الساحات ورغم الزخم الكبير للثورة الذي كان يزداد أسبوعاً إثر أسبوع، ورغم أن الشباب في غالبية مدن البلاد يهتفون بضرورة سقوط النظام ويواجهون جحافل الأمن المركزي في مظاهراتهم، فيسقط هنا شهيد وعدة جرحى وهناك شهيدان وعدد أكبر من الجرحى شأن أي مواجهات تحدث بين متظاهرين غاضبين وقوات الشرطة حتى في أكثر دول العالم ديمقراطية... وكان الناس يتقبلون إلى حد ما ذلك المستوى من التضحيات ويعتبرونه ضريبة بسيطة في سبيل نيل الحرية والكرامة وفرص حياة أفضل.

كل شيء كان يوحي بأن هذه الجمعة ستمضي بهدوء كسابقاتها رغم أن القلق كان يبرز أحياناً بسبب حالة التعبئة التي مارسها الإعلام الرسمي ضد الشباب المعتصمين في منطقة الجامعة وأنهم سبب في التضييق على سكان الحي وبسبب بعض التحركات المريبة التي لاحظها الشباب، لكن أكثر الثوار بغضاً للنظام وشكاً في نواياه لم يكن يتوقع أن ما كان يجري التحضير له هو أسوأ من كل ما يمكن أن تخطط له عقول أعتى مجرمي الدنيا وقتلتها، وأن ما يجري من إعدادات في الخفاء هو أسوأ من كل الظنون التي يمكن أن تخطر على بال أكثر المتشائمين.

وفي عصر ذات يوم الخميس السابق لجمعة الكرامة كان هناك لقاء للرئيس صالح مع عدد من الإعلاميين الحكوميين – كنت بينهم – والمؤتمريين والقريبين منه لوضع آلية جديدة لكيفية تعاطي الإعلام الحكومي مع ما يجري في الساحات، إذ لم يكن يوجد حتى تلك اللحظة أي قرار معلن بالشروع في استخدام العنف مع المحتجين بغرض إنهاء احتجاجاتهم... وإذن فقد كان كل شيء يوحي بقدر من الطمأنينة.

انتهيت من صلاة الجمعة وذهبت لتناول الغداء عند والدتي أطال الله عمرها... وأثناء تناول الغداء بدأت الأخبار تتو إلى عن مواجهات عنيفة، عدت بشكل مستعجل للبيت وفتحت القنوات حيث كان النقل المباشر من قناة الجزيرة يوحي بأن المواجهات أكبر مما هو متوقع، فيما أعداد الشهداء يتزايد وبدأ التوتر يسيطر علي... ورغم أني كنت أنوي المقيل مع عدد من أصدقائي إلا أن الموقف استدعى ذهابي إلى مقر عملي في الوكالة، فقد أدركت أننا سنكون أمام يوم عصيب لا مثيل له... كانت الصور المأساوية تتواصل، فيما وضع التلفزيون الحكومي خبراً على شريطه منسوباً للوكالة أن بالمواجهات هي بين المتظاهرين وأهالي الحي، واتصلت بالوكالة وأنا على وشك الخروج من البيت إن كان ذلك الخبر صدر عنها فعلاً فنفى الشباب هناك علمهم به... وأدركت فوراً أننا مقبلون على مرحلة لم يعد فيها أي مجال للمصداقية أو الموضوعية في صياغة الخبر بعد أن ثبت لي أن ذلك التسريب المنسوب للوكالة جاء من مطبخ أمني على الأرجح... وصلت مكتبي وطلبت من مدير عام الأخبار أن يبلغ التلفزيون إلغاء الخبر أو على الأقل إلغاء نسبته للوكالة وإلا سأعلن عدم مسئوليتنا عنه، فما كان من التلفزيون إلا إعادة صياغة الخبر بعد إلغاء نسبته للوكالة... كانت الصور التي تنقل على الفضائيات مفجعة وتدل على أن هناك جريمة كبيرة تم التخطيط لها بعناية بالغة... وجلست أتابع الأحداث وأبحث عن مصادر مستقلة لفهم حقيقة ما يجري، فيما كنا ننتظر رد الفعل الرسمي الصادر عن الرئاسة.

كنت قد بلغت ذروة تأثري وإحباطي عندما وصل رقم الشهداء إلى الخمسين وصلت إلى قناعة في أعماقي أن هذا اليوم سيكون فاصلاً في مسار الاحتجاجات التي ستصبح منذ ذلك اليوم ثورة حقيقية مكتملة الأركان... كنت أشعر بقهر وفجيعة لم يساوراني بذلك القدر من قبل... ألم وحزن يملآن كياني وروحي... كنت أسأل نفسي هل ظهر الوجه القبيح للنظام الذي عملت معه عشر سنوات هكذا دفعة واحدة من أجل الذود عن كرسي السلطة أم أن في الأمر ملابسات أخرى؟! قررت دعوة اثنين من الزملاء الصحفيين المستقلين المتواجدين دائماً في ساحة التغيير كل على انفراد رغم أنهما أساساً لا يعرفان بعضهما لأسمع منهما روايتهما عما حصل... جاء الاثنان وسمعت منهما كل لوحده رواية مفصلة عما حدث... أدركت الحقيقة المحزنة، وأن النظام قرر الانتحار السياسي ذلك اليوم وطي صفحته بيده... كانت التفاصيل التي سمعتها مرعبة عن وحشية القتلة وعظيمة ومثيرة للفخر عن البطولات التي اجترحها الشباب العزل والتي لا يملك المرء أمامها إلا أن يذرف دموعه وأن ينحني احتراماً أمام هاماتهم الشامخة في وجه نظام بلغ ذروة الإجرام والانهيار الأخلاقي في ذلك اليوم... كشف أقنعته مرة واحدة وعرى نفسه أمام العالم كله وأنهى مشروعية وجوده وأنجز بنفسه انتصار الثورة التي قامت ضده باقترافه تلك الجريمة التي يندى لها كل جبين حر... جريمة لم يسبق لأحد أن اقترف مثلها في اليمن منذ قيام ثورة سبتمبر 1962م على الأقل... إن استهداف مدنيين عزل بالقنص والقتل مع سبق الإصرار والترصد هو سلوك يعبر عن مستوى من الوحشية والانحطاط الأخلاقي لم نجد أمثاله إلا في جرائم النازيين والفاشيست والصرب... أولئك الوحوش الذين قتلوا شبابنا الطاهر مقابل النزر اليسير من المال كانوا عنوان ووجه المرحلة القادمة التي سيقضي النظام خلالها ما تبقى له من أيام في الحكم!.

عندما ظهر بنفسه على التلفزيون عصر ذلك اليوم المشئوم ضارباً بعرض الحائط مشاعر شعب بأكمله زلزلته تلك الجريمة بتبريرات محزنة مناقضاً نفسه في ذات الوقت بتشكيله لجنة تحقيق شعرت بحزن شديد... كيف تعلن أنك ستحقق في الجريمة بينما أنت قد حسمت الأمر ورميت التهمة على سكان الحي وفي الوقت نفسه تقدم وزير داخليتك لاستكمال حديثك بدلاً من أن تقيله على الأقل هذا إذا لم تقم أساساً بإقالة الحكومة كاملة أو تقديم استقالتك؟! يا الله... ما هذا الذي يحدث؟ لحظتها وبعد سماع شهادتي الزميلين القادمين من الساحة أدركت أنه قد آن الأوان لأن أطوي على الفور صفحتي مع هذا النظام الذي أصبح الاستمرار في العمل معه لتسويق مبرراته القبيحة من أجل التغطية على جريمته البشعة مستحيلاً لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد أو كان لديه بعض من كرامة واحترام للنفس.

كانت الوكالة يومها عروساً في كامل زينتها، لأننا كنا على موعد في اليوم التالي السبت 19 مارس مع عيد الإعلاميين لافتتاح المطبعة الجديدة بمبناها الأنيق، إضافة إلى المبنى الآخر الخاص بالشؤون التجارية والترجمة والجودة وقياس الأداء... تأجل الاحتفال بسبب الجريمة البشعة وكان يخفف حزني بأني سأخرج من الوكالة تلك الليلة للمرة الأخيرة وهي في ذروة عطائها واكتمال بنيتها ونجاحها بل وحتى أناقتها... لقد كانت عروساً مكتملة البنية والأناقة... وقبل التاسعة بقليل اتصل بي الوزير الشجاع النبيل نبيل الفقيه معلناً استقالته فيما كنت ألم بعض أغراضي الشخصية التي أتركها في مكتبي عادة بهدوء ودون أن يشعر أحد بما في ذلك أقرب الناس لي أنهم لن يروني مرة أخرى في هذا المكتب الذي عملت فيه عشر سنوات كاملة إلا شهرين... قمت بجولة أخيرة في المؤسسة التي أحببتها وأحببت منتسبيها الذين عملوا معي بإخلاص لا نظير له... وانصرفت إلى منزلي لصياغة نص استقالتي وكان آخر ما أجزته تلك الليلة البيان الشجاع المندد بالجريمة لوزيرة حقوق الإنسان حينذاك الدكتورة هدى البان والتي قدمت استقالتها في مساء اليوم التالي.

وصلت إلى البيت، وعلى الفور شرعت في صياغة نص الاستقالة، وأحسست أن الصيغة التي كتبتها ليست مناسبة... فقررت أن أريح أعصابي وأحاول النوم... وبالفعل نمت نوماً مريحاً بعد أن اتخذت قراري وأرحت ضميري وفعلت ما يتفق مع ما أؤمن به من قيم... صحوت الفجر وأديت الصلاة ثم جلست لمراجعة صيغة الاستقالة وأنجزتها بصورتها النهائية التي كنت راضِ عنها ثم عدت للنوم... كنت قد أغلقت تلفوناتي وفي الصباح، كنت أحس بصفاء ذهن وراحة نفسية كبيرة رغم أني أعلم أن استقالتي ستزعج كثيرين وقد لا يتوقعونها بحكم الصورة المضخمة عن علاقتي الشخصية بالرئيس علي عبدالله صالح والتي أخذت أكبر من واقعها وحجمها الفعلي... في الساعة الثانية عشر ظهراً بعثت بالاستقالة عبر الفاكس إلى القصر الجمهوري وأتبعتها برسالة تلفونية لمسئول التحويلة حتى يتنبه لها لإدراكي أنهم سيكونون مزحومين بالاتصالات والفاكسات، وقد تضيع بين ركام من الأوراق... وبعد نصف ساعة أعلنتها، وفي الساعة الثالثة عصراً صدر قرار جمهوري بتعيين الصديق العزيز طارق الشامي بديلاً عني، ولعل هذا القرار كان من أسرع القرارات التي أعقبت أي استقالة مفاجئة التي صدرت في السنوات الأخيرة... شعرت بالراحة والسعادة بسرعة تعيين البديل، لأن ذلك يعني أنهم احترموا رغبتي وأنه لن تحدث أية محاولات لإثنائي عنها.

شعرت بسعادة كبيرة وبجبل من الهموم انزاح عن صدري... فقد كنت أعلم أن الحيادية التي حاولت انتهاجها مع زملائي في أدائنا في الوكالة منذ انطلاق الثورة الشبابية لن تكون مقبولة من السلطات بعد مذبحة جمعة الكرامة، وسيكون علي أن أسهم في تسويق الجريمة على غير حقيقتها التي كانت بينة وواضحة لأبسط المتابعين... ولو لم تكن السلطة هي المتورطة بالفعل في هذه الجريمة النكراء ما اضطر الرئيس صالح أن يقيل الحكومة عقب الجريمة بيومين وأن يعقد اتفاقاً نهاية الأسبوع نفسه في منزل نائبه حينذاك مع اللواء/ علي محسن على استقالتهما وخروجهما من البلاد بحضور قادة من المؤتمر والمشترك والسفير الأمريكي شهدوا على الاتفاق.

لقد كانت جمعة الكرامة أشبه ما تكون بيوم (فرقان) في مسيرة الثورة الشعبية اليمنية... لقد كانت حداً فاصلاً بين ما قبلها وما بعدها... أخذت الثورة الشبابية الشعبية السلمية في ذلك اليوم مشروعيتها الكاملة فتعاطف معها معظم أبناء شعبنا اليمني العظيم واعترف بها العالم كله فيما سقطت مشروعية النظام القائم، لأن أي نظام يقتل أبناء شعبه العزل يفقد مشروعيته الداخلية والخارجية على السواء وهذا ما حدث في ذلك اليوم الخالد الذي قدم فيه شباب اليمن الأطهار بطولات أسطورية قل نظيرها واستبسلوا في الدفاع عن ثورتهم السلمية بصدورهم العارية وتمكنوا من إلقاء القبض على أغلب المجرمين الذين اقترفوا ذلك الفعل الآثم... ولم يأت مساء تلك الجمعة حتى كانت تفاصيل وحقائق الجريمة ثابتة ومعلومة بين يدي الثوار... وهانحن اليوم نحيي الذكرى الأولى لأولئك الأبطال ومعهم بقية الأبطال الذين استشهدوا دفاعاً عن ثورتهم السلمية في كل المحافظات قبل جمعة الكرامة وبعدها والذين يعجز القلم عن التعبير عن عظمة تضحياتهم ويكفيهم أنهم عند ربهم مع النبيين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا... فيما ندعو الله تع إلى بالشفاء لكل الجرحى والمعوقين الذين سيظلون سراجاً ينير لشعبنا طريقه نحو التغيير حتى ينجز حلمه في بناء الدولة المدنية الحديثة.

زر الذهاب إلى الأعلى