قبل سبع سنوات على ما أظن أعلنت أحزاب اللقاء المشترك برنامجها السياسي للإنقاذ الوطني متضمنا فيما تضمنه اختيار النظام البرلماني كنظام للحكم في اليمن بديلا عن النظام المختلط القائم حتى الآن، وأتذكر أني ناقشت هذا الخيار منتقدا إياه من زاوية أن اختيار أحزاب المشترك له بدا كما لو أنه رد فعل على سلطات الرئيس علي عبدالله صالح المطلقة في الحكم وليس عن دراسة عميقة،
وفي تقديري أن اختيار شكل النظام لا ينبغي أن يقوم على أساس ردود فعل بقدر ما ينبغي أن يقوم على أسس علمية صحيحة تدرس الواقع وتحدد الخيار الأنسب بعيدا عن عقدة حكم الفرد والسلطات المطلقة التي يتمتع بها عادة في عالمنا الثالث والتي لا يضبطها دستور ولا قانون نتيجة تغلب الحكم الفردي عادة وسطوته التي يمارسها عبر هيمنته على قوات الجيش والأمن كما هو الحال في عدة أقطار عربية.
من الواضح أن دول الربيع العربي تفضل التوجه نحو اتخاذ النظام البرلماني كنظام للحكم وهذا ما بدا واضحا على الأقل في تونس ومصر من خلال آراء التكتلات السياسية والحزبية الكبيرة لكن ما خلصت إليه تونس – في الفترة الانتقالية الحالية – هو نظام أشبه بالنظام المختلط فرئيس الجمهورية المناضل المنصف المرزوقي يرفض أن يكون مجرد رئيس بروتوكولي..
ويبدو أنه تم التوصل إلى صيغة وسطية تعطيه قدرا من الصلاحيات يوازن إلى حد ما صلاحيات الحكومة التي يرأسها حزب الأكثرية المتمثل في حركة النهضة... وفيما يتحدث حزب الحرية والعدالة (الإخوان المسلمون) في مصر الحاصل على أكثرية مقاعد مجلسي الشعب والشورى عن تفضيله للنظام البرلماني فإن مصر تتجه حاليا لانتخاب رئيس للجمهورية عبر انتخابات مباشرة بينما تتشكل في الوقت ذاته جمعية تأسيسية لصياغة مشروع الدستور الجديد، وهذا كله قد يوحي بأن مصر تتوجه من الناحية الفعلية لاختيار نظام مختلط على الطريقة الفرنسية تتوازن فيه صلاحيات رئيس الجمهورية المنتخب مع صلاحيات البرلمان وحكومة الأغلبية المنبثقة عنه.
بالنسبة لليمن فإن أحزاب اللقاء المشترك المعارضة سابقا المشاركة في الحكم حاليا تميل حتى الآن لاختيار النظام البرلماني كنظام للحكم وهي غالبا ستدخل مؤتمر الحوار الوطني حاملة لهذا الرأي، فيما لا يبدو أن المؤتمر الشعبي العام الذي كان منفردا بالحكم قد استقر على رأي، فهو كصاحب أغلبية قد يفضل النظام البرلماني أيضا إن انتهت قيادة الرئيس صالح له، وهو أيضا كحزب تأسس على يد الرئيس السابق قد يميل أيضا إلى صيغة النظام الرئاسي في حال استمرار هيمنة عائلة صالح عليه، وهذا مستبعد على الأرجح...
وبالتأكيد فإن مؤتمر الحوار الوطني هو من سيحسم شكل النظام القادم إلا أن أمرا كهذا لا ينبغي أن يمضي في إطار حوار سياسي بحت بحيث يتعصب كل طرف لرؤيته على ضوء ما يعتقد أنه يمثل مصلحته السياسية المستقبلية أو انطلاقا من رد فعل تجاه عقدة سياسية متأصلة، بل إنه ينبغي أن تسبقه عدة دراسات ميدانية تبحث في الأبعاد الاجتماعية والثقافية والاقتصادية لمختلف الخيارات، كما ينبغي أن تسبقها العديد من استبيانات الرأي العام تقوم بها مؤسسات محايدة إلى جانب ندوات مكثفة تشمل مختلف الفئات المتعلمة والمثقفة وكذلك فئة الشباب أيضا وهم أكثر المعنيين بالأمر باعتبارهم كانوا وقود الثورة التي أنجزت هذا التغيير التاريخي في حياة اليمنيين وباعتبار أنهم يمثلون مستقبل اليمن الذي سيكون شكل النظام الجديد أحد مكوناته التي ينبغي أن تؤدي إلى الاستقرار السياسي المنشود الذي ضحوا من أجل الوصول إليه.
وفي مقارنة عاجلة بين النظامين البرلماني والرئاسي أجد نفسي دوما ميالا للنظام الرئاسي بنموذجه الأمريكي لأني أظنه أكثر ديمقراطية من النظام البرلماني وبالذات لبلد ناشئ ديمقراطيا كاليمن... فالنظام الرئاسي يضمن تداولا سلميا حقيقيا للسلطة كون رئيس الجمهورية يتغير كل دورتين أو كل دورة، حيث يمكن أن يختار اليمنيون نموذجا يتمثل في أن تكون هناك دورة رئاسية واحدة لا تتكرر مدتها ست سنوات مثلا بدلا عن دورتين كل واحدة منهما أربع سنوات، وبالطبع – كما أشرنا في مقال سابق – في ظل شروط دستورية تمنع رئيس الجمهورية من تعيين أي من أقاربه في أي مناصب قيادية في الجيش والأمن أو تطلق يده في التصرف بالمال العام أو تحول دون مساءلته أمام البرلمان...
ففي ظل الخيار الرئاسي لابد من وضع كل الشروط الدستورية التي تمنع رئيس الجمهورية من التحول إلى دكتاتور... كما أن النظام الرئاسي يحقق قدرا من التوازن بين سلطات رئيس الجمهورية والبرلمان المنتخب الذي قد تكون أغلبيته أحيانا من غير حزب الرئيس المنتخب، وحتى إن كانت أغلبيته من حزب الرئيس المنتخب فإن هذا التوازن يظل قائما إذا لا يستطيع الرئيس أن يعين أحدا في أي من المناصب العليا والهامة إلا بموافقة البرلمان سواء كان مجلسا واحدا أو مجلسين، كما أن هذا النظام يحقق فصلا حقيقيا بين السلطتين التنفيذية والتشريعية ويحول دون أي تماهي بينهما كما هو حال النظام البرلماني الذي تصبح فيه الأغلبية البرلمانية أداة بيد الحكومة كونها تمثل هذه الأغلبية... ويتميز النظام الرئاسي بأنه يجعل رئيس الجمهورية هو رئيس الحكومة في الوقت ذاته وبالتالي يحمله كامل المسئولية عن السياسات العامة وتنفيذ الخطط التنموية وغيرها دون أن يتنصل عن مسئولياته ويرمي باللائمة على رئيس الحكومة كما كان يحدث عادة...
وبالمقابل هناك مزايا للنظام البرلماني لا يمكن تجاهلها أهمها أنه يجنب البلاد من احتمالات السقوط مجددا تحت الحكم الفردي لكنه لا يحول دون سقوطها في براثن الحكم الحزبي، إذ أن مشكلته تكمن في أن حزبا سياسيا بعينه قد يتفرد بالحكم لدورات كثيرة متتالية في حال ضعف الأحزاب الأخرى، أو على العكس تماما فإنه قد يدخل البلاد في مأزق الائتلافات الحكومية في ظل عجز أي حزب عن الحصول على الأغلبية، فإذا لم يكن هناك انسجاما كافيا بين عدد كاف من الأحزاب السياسية لتشكيل الحكومة فإن ذلك يمكن أن يقحم البلاد في حالة من الفراغ الناتج عن صعوبة تشكيل الحكومة وهذا أمر تكرر في عدة دول... وكلا الأمرين يمثل مشكلة في حد ذاته، لكن هذا لا يعني أيضا أن النظام الرئاسي خال من العيوب ففي حالة أن يكون رئيس الجمهورية من غير حزب الأغلبية في البرلمان فإن هذا قد يعني إعاقة إنجاز الكثير من التشريعات والاتفاقيات التنموية وغير ذلك من المصالح العامة في البلاد.
وأخيرا فإنه بالتأكيد لا يمكن أن تظل البشرية أسيرة لهذين النموذجين الديمقراطيين في الحكم رغم أنهما حتى الآن يعتبران أرقى ما توصل إليه الفكر السياسي المعاصر، لذلك فإنه يمكن لليمنيين وهم يتحاورون على شكل النظام الجديد أن يبتدعوا نظاما جديدا يمكنهم أن يصوغوه من خلال تجاربهم السابقة والتجارب البشرية القائمة بما يحقق لهم نظاما ديمقراطيا يرسخ الاستقرار السياسي في البلاد الذي هو أحوج ما يكونون إليه في المرحلة القادمة.