بدا المشهد المصري طوال الأسابيع الماضية ممتلئاً بالكثير من الإثارة ، في سباق المرشحين للرئاسة في أول انتخابات رئاسية تجري داخل مصر بعد ثورة 25 يناير2011م ، ومع أن المشهد ساده الكثير من أعمال العنف ومن التجاذبات السياسية الحادة بين مختلف الأطراف السياسية على مختلف الساحة المصرية ، إلاَ أن مشهد جماعة الإخوان المسلمين في سباقها نحو الرئاسة كان أكثر المشاهد إثارة على الإطلاق ، وذلك لعدة أسباب أهمها أنها أكبر جماعة سياسية تحظى بحضور جماهيري وشعبي واسع داخل المجتمع المصري مع أنها ظلت محضورة من ممارسة العمل السياسي طوال العقود الماضية ، ولأجل ذلك كان تركيز وسائل الإعلام العربية والعالمية عليها أكثر من غيرها للاعتبارات السابقة وغيرها .
وتكمن فصول الإثارة في مشهد جماعة الإخوان داخل مصر أنها بداية كانت قد أعلنت - قُبيل سقوط نظام مبارك - بأنها لن تسمي مرشحاً من طرفها لمنصب رئيس الجمهورية ، الأمر الذي اعتبره الكثير من المراقبين نوعاً من الحصافة والدهاء السياسي في ظرف حساس تمر به مصر والأمة بشكل عام بعد ثورات الربيع العربي ، ثم كانت المفاجأة الثانية بإعلان عضو مكتب إرشادها البارز د/ عبد المنعم أبو الفتوح ترشحه لمنصب رئيس الجمهورية بمعزل عن موافقة الجماعة ، فقيل يومها أن ذاك مجرد مسرحية من طرف الجماعة وغلب على ظننا أنها ستصدر تعميماً لأنصارها بترشيح أبو الفتوح في نهاية المطاف ، لكنها سارعت لتقطع الشك باليقين وأصدرت بياناً رسمياً أعلنت فيه فصل الدكتور/ أبوالفتوح رسمياً من الجماعة بسبب قراره ذاك دون موافقتها ، ثم كانت المفاجأة الثالثة حصولها على الأغلبية النسبية داخل البرلمان المصري ، الأمر الذي منحها مزيد من الثقة بالنفس لدرجة أخافت خصومها كما اثارت هواجس المجلس العسكري نفسه ، وكانت المفاجأة الأقوى والأهم والتي اعتبرتها العديد من الأطراف السياسية بمثابة القنبلة التي فجرتها الجماعة وغيرت موازين التنافس على الأرض هي تسميتها للمهندس / خيرت الشاطر مرشحاً لها للرئاسة ، الأمر الذي نظر إليه خصومها على أنه تراجعاً من طرفها عن القرار الذي كانت قد اتخذته بعدم تسمية مرشح لها ، وهو ما استطاعوا توظيفه لصالحهم والنيل منها إلى حد ما ، على اعتبار أن ما فعلته لا يتسق أخلاقياً مع شعاراتها الدينية في الالتزام والوفاء بالوعود بحسب تعبيرهم.
لكن الشيء الأكثر إثارة على الإطلاق في كل هذه الانتخابات هو التنافس المحموم والمحتدم على الرئاسة بين الإخوان أنفسهم ، فالدكتور/ محمد مرسي هو المرشح رسمياً عن جماعة الإخوان ، وأبو الفتوح الذي "فُصِل" أو "انفصل" عن الجماعة لا يهم ، مهما قال أو فعل فهو محسوب على الإخوان أيضاً ، وكلاهما يمثلان مدرسة واحدة في نهاية المطاف ، بل الأكثر أهمية وإثارة أن كليهما يتصدران المشهد في عدد الأصوات حسب استطلاعات الرأي من بين كل المرشحين الثلاثة عشر وكذا في نتائج انتخابات المصريين في الخارج باستثناء –ربما- عمرو موسى الذي يحل في المرتبة الثالثة بعدهما ، يليه حمدين صباحي في المرتبة الرابعة ، الأمر الذي يشي بأن ما يجري هو معركة "كسر عظم" إن جاز التعبير بين الإخوان وأبو الفتوح ، قبل أن تكون بين الإخوان وخصومهم التقليديون من الأحزاب الليبرالية .
إن هذا التنافس المثير يعكس –بتقديري- مناخاً صحياً وإيجابياً بدأت تعيشه مصر بعد ثورة 25 يناير من زاوية أن هذه هي الديمقراطية في مفهومها الحقيقي ، وأن هذه هي معايير اللعبة المشوقة التي تترك الحكم للجمهور دائماً ، وليس لما يريده أو يتمناه اللاعبون في الميدان، لكن هذا التنافس– أقصد بين الإخوان وأبو الفتوح تحديداً – قد يبدوا سلبياً أيضاً لدى البعض الآخر وبخاصة المتربصين بهذه الجماعة ، الذين وجدو في ذلك فرصة ثمينة للقول بأن مغريات السلطة وبريقها قد أثر حتى على قادة هذه الجماعة التي كانت تبدوا وكأنها مترفعة عن السلطة وزاهدة فيها ، فإذا بها تتنافس فيما بينها على تلك السلطة.
شخصياً أرى بأن جماعة الإخوان المسلمين قد ارتكبت خلال هذه الانتخابات خطأين اثنين ، الأول وهو خطأ استراتيجي في حق نفسها بالدرجة الأساس حين أسرعت بإعلان فصلها للدكتور/ عبد المنعم أبو الفتوح ، وخُيِّل إليها في لحظة هي أقرب لردة الفعل وكأنها ستفصل تلميذاً صغيراً في مدرسة ما لمجرد أنه أغاض أستاذه ، ولم يعد يذعن له بالسمع والطاعة كما كان قد تعود منه ، وهذا الأسلوب مشابه إلى حد كبير لأسلوب ذاك الوالد الذي يظل ينظر لابنه على أنه ذاك الغر الصغير، الذي يتوجب عليه السمع والطاعة دون نقاش ، حتى بعد ان كبُر الابن وبات يحمل نفس خبرة والده ولربما زاد عليه بروحه الشبابية القادرة على العطاء أكثر من والده ، ونسيت الجماعة كذلك أن جحافل من أنصارها قد تخرجوا من مدرسته ، بل وأقسموا بالبيعة على يديه طوال عقود ، وبالتالي يصبح ممكناً القول بأن .. من يفصل من ؟!
والخطأ الثاني أنها ربما غضَّت الطرف بشكل أو بآخر عن ممارسات بعض أفرادها الذين أساءوا لأستاذهم وتعرضوا لشخصه بالتجريح أثناء عملية الدعاية الانتخابية ، وهو الأمر الذي انعكس سلباً على سمعة الجماعة وإيجاباً لصالح أبو الفتوح ، لأن ذلك التجريح قد أدى إلى تعاطف الكثيرين معه من داخل الجماعة وخارجها على حد سواء ، بدليل أن كل استطلاعات الرأي التي أجريت أظهرت نتائجها أنه كان يتقدم على مرشح الإخوان أو يساويه في أسوء الأحوال .
أرى بأن على جماعة الإخوان المسلمين أن تغير من منهجية تفكيرها بما يتوائم ومتطلبات المرحلة -وبخاصة بعد ثورات الربيع العربي- حتى لا تظل تفقد المزيد من قياداتها يوماً بعد يوم ، لأن ولاء الأفراد بالأساس هو للفكر وليس للجماعة ذاتها ، وهذه هي المنهجية الصحيحة التي أعتقد أن شباب الإخوان وأنصار الجماعة يؤمنون بها أكانوا في مصر أو خارجها ، كما أن مفاهيم كالسمع والطاعة وكذا السرية في منهجية الجماعة وإصدار التعميمات الداخلية لأنصارها فيما يجب فعله ومالا يجب وغيرها من المفاهيم أمور يجب مراجعتها بتقديري ، وعندما وضعها الإمام البنا في منهجية البناء التنظيمي للإخوان كان ذلك –من وجهة نظري- لأسباب موضوعية تتعلق بطبيعة وظروف المرحلة آنذاك ، لكنها لم تعد قائمة الآن ولا حاجة لها على الإطلاق.
أن أكثر ما يقلق من يتابع المشهد المصري وكل المتعاطفين مع الإخوان في مصر في هذه الانتخابات هو الخشية من أن تؤدي تلك المنافسة بين الإخوان وأبو الفتوح لتشتت أصوات كليهما وذهابها لصالح الفريق الآخر، ولأجل ذلك فنحن نرى أنها اليوم -أعني جماعة الإخوان- أمام التزام تاريخي وأخلاقي حيال أنصارها والمؤيدين لها ، ويجب عليها القيام به من خلال هذه الانتخابات ، وهو ما إن حدث سيُعد بمثابة إنجاز حقيقي للجماعة ومحك عملي لها سيعكس مقدرتها "عملياً" على الالتزام بالنهج الديمقراطي داخل تنظيمها ، وذلك من خلال ترك الحرية المطلقة لأفرادها في اختيار المرشح الذي يريدونه كلٌ حسب اختياره ، لن نبالغ ونقول بين كل المرشحين ولكن على الأقل بين أبو الفتوح و محمد مرسي ، المحسوبين عليها وأن تبتعد عن التعميمات الداخلية هذه المرة ، تلك التعميمات التي غالباً ما تلزم الأفراد بما تراه الجماعة ، الأمر الذي يُعد منافياً للأطر الديمقراطية وحرية الرأي والتعبير التي تقول بأنها تلتزم ، بل وتؤمن بها.