في العام 1950 أصدر المفكر السياسي الكبير محمد حسنين هيكل كتابه الأول "إيران فوق بركان"، وبعد ستة عقود لا تزال إيران طافية على البركان. تاريخياً نجحت هذه الإمبراطورية المتوحشة في تدمير روما نفسها. يتحدث مفكرون ومؤرخون أوروبيون: لم تثر روما ضد الغزاة بوصفهم محتلين، لكنها ثارت عندما قرر الفرس نقل طقس عبادة الملك، بوصفه إلهاً، إلى أرضهم.
قدم الفرس، مبكرا في التاريخ، فلسفة ناجزة عن الخالق والملك والمواطن، بطريقة ما توصلوا إلى صياغة اعتقاد خالد يجعل من الملك إلهاً قديراً خارقاً، مفارقاً للقوى البشرية، حتى عندما دخلت الجيوش الإسلامية خراسان، وفي القلب منها فارس، بحث الوجدان والحس الفارسي عن الملك الإله بين المنتصرين، فوجدوه متجسداً في سلسلة شخوص جرى اختيارهم بعناية فائقة، وهكذا أصبح الدين الإسلامي في النسخة الفارسية يغرق في الحديث عن أشخاص لا نصوص، وعن عالم الغيب لا المشاهدة.
ارتاحت بقايا الإمبراطورية الفارسية المنهارة للدين الجديد بعد أن حولته آلتها الذهنية لنسخة جديدة عن الفلسفة الفارسية الأصيلة. أنتجت إيران، بذلك، نسخة معدلة عن الإسلام هي تجلّ تاريخي للعقيدة الفارسية الأصولية، للرؤية الفارسية للعلاقة بين الإله والملك والمواطن. المرجعية الفلسفية النهائية للدين الإسلامي في نسخته الفارسية تتناقض جذرياً مع الفلسفة الكلية للدين الإسلامي. الأخير مجد الحريّة وجعل الإنسان واحداً، جعله في المركز تماماً، وامتدح سيادة القوانين والنظم. بينما جعل الأول من النظم والقوانين أداة تطويع وامتثال ضروري لتحقيق رؤية الحاكم وتدابيره، الحاكم الذي هو أيضاً متفوق ويقع خارج السياق البشري الاعتيادي، كما يقع في المركز فقد "خلقت لأجله الدنيا وضرّتها". فهو، بيولوجياً أيضاً، فائق وكلي الاقتدار. فلسفة الدم الأزرق الساساني تجسد هذا المنزع الفلسفي المصادم للرؤية والحلم الإسلاميين. الحديث هنا لا يتعلق بالكفر والإيمان بل بكيف ترى الفلسفة الفارسية إلى الكون والإنسان وكيف تتناقض جذرياً مع الرؤية الاسلامية الصافية: فالإسلام عملية تحرير شامل تدعو إلى سيادة الإنسان على نفسه وتمجد العمل والإنتاج كما الحرية.
راهناً، تقدم الإمبراطورية الفارسية نفسها بوصفها "الجمهورية الإسلامية". الإسلام الإيراني نسخة خاصة شديدة التعقيد والتركيب لا تلبث أن تناقض بديهيات الإسلام، دين الحرية الأعظم. فلسفياً ومنهجياً تحاول هذه الفلسفة عزل النبي محمد "صلى الله عليه وسلم" عن المتلقي المسلم عبر القتل المعنوي الممنهج لكل من أحاط به ممن نقلوا رؤيته الكلية عن الإنسان والحرية والكون والعمل ونظام الحكم. في الرؤية الفارسية للإسلام: كل أصحاب رسول الله خونة. بهذا يتحلل الفارسيون عن خوض أي حجاج أخلاقي أو منهجي حول الإسلام الحقيقي، وبدلاً عن ذلك يقدمون رؤيتهم الخاصة عبر نسبتها إلى مصادر تاريخية متعالية عن الفحص والتدقيق. في التحصيل النهائي سينتجون نسخة عن الدين الإسلامي يصعب التعرّف عليها.
هذا ليس جدلاً طائفياً ولا دينياً، فالنسخة الإسلامية الفارسية هي واحدة من التجليات المعاصرة للوعي والفلسفة الفارسية القديمة، لرؤيتها الكلية، وليس مستغرباً أن تصطدم هذه الفلسفة، في تجلياتها العسكرية والسياسية والثقافية، بالمنطلقات المعرفية والأخلاقية ليس فقط للإسلام، ولا لروما، بل ضداً لليبرالية القديمة والجديدة وحتى اليسارية في كل تعديلاتها. فهي رؤية نازية مناهضة للموقف الإنساني المبدئي.
في الثمانينات، عقب الثورة مباشرة، كان اسم "مارتن هايدغر" المثقف الألماني النازي، الذي عين رئيساً لجامعة فرايبورغ سنة 1933، أكثر الأسماء تداولاً في الحقل الثقافي والمعرفي الإيراني، بينما كان مثقفون مستقلون عن المنزع النازي الإيراني يحاولون الزج بكارل بوبر، الانجليزي من أصل نمساوي، على استحياء لتعديل المزاج النازي بقليل من الأطروحات الإنسانية حول العدالة والمساواة. غير أن كل ذلك لم يفلح في زمن الولي الفقيه، حافظ السر الأعظم. في تلك الحقبة كانت طهران، ثقافياً، هايدغريّة بامتياز، وكان اسم مارتن هايدغر لا يقل شهرة عن اسم المرشد الأعلى.
مع الجمهورية الإسلامية ذات المنشأ والماهية النازية عاد صراع روما وفارس من جديد. في فيلم "300 أسبارطي" كانت الرؤية الغربية للصراع الفارسي الغربي شديدة الوضوح: بربرية عمياء لا ترى وزناً خاصاً للإنسان، أي إنسان. يتصدى لها شهداء شباب، أفلاطونيو الذاكرة والخيال. اعتبر أحمدي نجاد الفيلم مجرد ملمح صغير لصراع الجمهورية الإسلامية مع قوى الاستكبار، أي تلك القوى التي تمنح المواطن الحرية الكاملة والحقوق كلها: في العدالة، في الصحة، في أن ينسى، في أن يتذكر، وفي أن يموت أو يتحوّل. بينما يتحول المشروع الفارسي، في صورته الأمنية والعسكرية، إلى سلسلة غير متناهية من الموت المجاني والانهيارات البشرية.
فعلى سبيل المثال: تضع إيران القدس نصب أعينها، حتى إنها أعدت جيشاً خاصاً بالقدس. كذلك تكتب أناشيد مطولة حول الشعب الفلسطيني التائه، لكنها عملت منهجياً على تصفية الوجود الفلسطيني من العراق، ووقفت ضد منحهم أي فرصة حقيقية في الحياة في لبنان (محرومون من ممارسة 151 مهنة في لبنان، منها التعليم والطب والهندسة والتمريض). أما في العراق فقد أدخلتهم في تغريبة جديدة أصطلح على تسميتها "شتات الشتات". برغم كل ذلك، وفي خلفية موسيقية أخلاقية شديدة النتوء، قالت الجمهورية الإسلامية إنها لن تسكت عن انتهاك إنسانيتهم في غزة، وهكذا تقدم الجمهورية الإسلامية نفسها في ثياب قتلة يجوبون البحار، مسلمون: نساؤهم محتجبة ولحاهم مرتّبة لكن بنادقهم لا تكف عن الرصاص.
صحيح أن إيران فوق بركان، لكنها استطاعت أن تفرّغ البركان عبر أنابيب ضغط عالي في العديد من البلدان، اليمن مثالاً. إنها سرعان ما تعثر على عاملي "مواسير ضغط عالي" يعملون على تفريغ الحمولة السامة في عواصم بلدانهم، كما يجري في اليمن حالياً، أما في سورية ولبنان والبحرين والعراق وأفغانستان فقد نجحت إمبراطورية فارس الإسلامية في قتل وتشريد أعداد ضخمة من المسلمين بلغت حوالي عشرة آلاف ضعفاً لأولئك الذين سقطوا في كل معارك وغزوات الرسول ضد الكفار والمشركين في عشرين عاماً. ملحوظة: بلغ قتلى جميع معارك وغزوات حوالي 283 قتيلاً.
لا أحد يعلم على جهة اليقين إلى أين تريدُ إيران. لكن المؤكد هو أنها لا تريد أن تعيش بسلام، ولن تقف بالمطلق في صف الحرية والأخلاق الإنسانية.