عندما تصل الحالة الحياتية لشعب مغضوب عليه إلى انعدام شبه تام للكهرباء وشحة تامة للماء في صيف لاهب وحار لم يسبق له مثيل منذ اكثر من ثلاثين سنة، فان الدولة التي تقود مثل هذا الشعب كيان فارغ حتى وان وجد له تنظيم فان وجوده غير اخلاقي، والحكومة التي تقود مثل هذه الحالة البائسة شيطان ملعون لا يكمن في داخله قطرة من الضمير والوجدان والمسؤولية والالتزام الاخلاقي، وهو مطلقا لا يحمل اي مساحة للشفقة ولا للرحمة ولا ذرة من الانسانية.
والحقيقة المرة، ان ما يجري بالعراق في وسطه وجنوبه هو واقع مزري خالي من بؤر منيرة للحياة، والمؤسف وامام هذه الحالة الحياتية البائسة لا يعقل ان يستقبل هذا الامر بخنوع وخشوع عشرات الملايين من العراقيين، وامام واقع حياتي يائس تنكسر له القلوب قبل ان تلتهب له الصدور وتنمكش له النفوس قبل ان تبكي له العيون، وفي ظل مشهد صراع سياسي متواصل على المناصب والحقائب والامتيازات حسب محاصصات توافقية لم تضمن الا منافع شخصية وحزبية لحد الان لرجال واحزاب الحكم على حساب الشعب والدولة.
وقد اثبتت الاحداث طوال السنوات الماضية ان السلطة العراقية فعلا سلطة بلا ضمير وبلا وجدان بدليل الازمات والمأساة والمشاكل الخدماتية والمعيشية والحياتية التي يعاني منها العراقييون، وفي ظل واردات نفطية خيالية وصلت إلى أكثر من 500 خمسمائة مليار دولار، وفي ظل تخصيصات عملاقة خصصت للكهرباء 27 مليار دولار وللماء 23 مليار وأكثر من 25 مليون عراقي بلا كهرباء وبلا ماء، فاين ضمير السلطة ان كانت لها ذرة من الاخلاق والوطنية، واين الوزارات المعنية الفاسدة من هذه المبالغ الخيالية.
وبقاء العراق لسنوات عديدة على رأس الدول الفاسدة في قائمة الشفافية الدولية، دليل آخر على انهيار المنظومة الاخلاقية داخل بنية الدولة العراقية وداخل الفئة السياسية الحاكمة على مستوى السلطات خاصة التنفيذية منها، وهذا يعني افتقار أهل الحكم وعلى رأسهم من يقود الرئاسات الثلاث للبرلمان والحكومة والرئاسة، والوزراء والامراء، إلى ابسط مقومات القيم الاخلاقية التي توجب توفيرها لدى القائمين بادارة الحكومة والدولة.
ونتيجة للممارسات والسلوكيات النابعة من فساد مطلق لأهل السلطة والاطراف السياسية والكتل البرلمانية في العراق، فان البلاد يمر بمرحله الدولة الفاقدة لمنظومة الاخلاق التي تتحكم بالبلاد، ولو استمر الحال على ما نشهده في المشهد السياسي سنشهد انهيارا كاملا لكيان الدولة ولمقومات البنية التحتية للمجتمع العراقي، وستصبح الدولة كيانا بلا اخلاق، وقد سيلحقه انهيار تام للحضور والوجود العراقي.
ويقينا عندما تنهار المنظومة الأخلاقية للدولة والمجتمع، تصبح الأمة معرضة لسقوط تام، والمنتفعون المتحكمون بالعملية السياسية لادارة السلطة في العاصمة الاتحادية لا يهمهم ما يحصل في حاضر ومستقبل العراقيين، وهم متربصون للاستفادة بشتى الاساليب والطرق من الابواب التي فتحوها وسيطروا عليها داخل حلقات موارد الحكومة للإنقضاض على الخزائن واستغلالها لنهب الخيرات والاموال والثروات والممتلكات بطريقة مباشرة وغير مباشرة، وبعيدا عن الطرق الإستعمارية التقليدية الماضية والتي سيطرت على موارد ومقدرات الدولة المستعمرة بطرق غير مباشرة.
والحقيقة المرة، وكما قلت في مقال سابق، اني اعلل هذا الوجود العليل الدائم للعراق كدولة بلا اخلاق بالهزيمة النفسية للوطنية والمواطنة التي فقدت اي معنى لها داخل منظومة كيان الدولة في البلاد، وهذه الهزيمة استقرت في داخل عقول ونفوس الأغلبية من العراقيين مع ارساء الاحساس بالدونية وعدم القدرة على تقديم كل ما هو ايجابي وفقدان المنافسة على الخير والعمل الطيب والاستحقاق الانساني، ولهذا فان هذه الحالة المشؤومة أوصلت أغلب العراقيين إلى حالة من الخضوع التام والخشوع والاستسلام للواقع المفروض، ورفع الراية البيضاء أمام التفوق الكاسح للسلطة السياسية الفاسدة وكأن ما يحدث للأمة ولأبنائها قدر محتوم لا سبيل لدفعه أو الخلاص منه، وهذا ما ساعد الفئة الحاكمة على فرض فساد مطلق وبدون اي حساب داخل مكونات الدولة الحاكمة.
وحسب قراءة الواقع العراقي فان المكون الذي بات يفرض "بوعي أو بدون وعي" واقعا متسما بالهزيمة والاستسلام رغم كل المعاناة والازمات الحياتية والمعيشية والخدماتية، هو المكون الشيعي الذي رضي بطغيان وفساد ممثليهم في السلطة والحكومة والدولة والبرلمان، وهذا ما جعل المشهد الشيعي ان يتصف بخشوع تام وخنوع كامل للسلطة الفاسدة، وهذا الأمر جعل ان يقع هذا المكون اسيرا تحت مخالب عالم الفساد المطلق الذي ارسته النخبة الشيعية الحاكمة "بالمشاركة مع النخبة السنية والكردية المشاركة في الحكم" من خلال سحقهم للمنظومة الاخلاقية التي تتحكم بادارة الدولة.
والمشكلة ان المكون الشيعي بدى يتحمل كل هذا الاسى الشديد مقابل هدف واحد، وهو الولوج العاطفي المطلق في الشعائر والمراسيم الحسينية والالتصاق التام مع مفردات سلوكيات وممارسات المذهبية الطائفية الشيعية، وهذا ما سبب ابعاد هذا المكون الحيوي الهام داخل النسيج العراقي عن المشاركة في توفير المقومات والاسس التي تبنى عليها المنظومة الاخلاقية للحكومة والدولة، ونتيجة عملية الغياب القسري للحضور الحيوي المنتج للمكون الشيعي، تغيب أيضا الحضور الحيوي المنتج للمكون السني وكذلك للمكون الكردي ولكن بنسبة أقل.
ونتيجة لغياب المنظومة الاخلاقية من أغلب المكونات السلطوية والمجتمعية، تحول العراق كدولة مشلولة إلى حالة استهلاكية شبه شاملة خالية من الانتاج والابداع والالتزام الاخلاقي، وفارغة بمساحة كبيرة من كل مسؤولية للانتماء والالتزام والمصداقية والجدية والعمل والابداع والاستحقاق الانساني والوطني والمواطنة الحقيقية.
وهنا لابد من الاقرار ان ما يحدث من قبل السلطة الحاكمة في البلاد هو استلاب فكري وحضاري ومحاولة جادة لمسخ الهوية العراقية عن طريق التغييب المتعمد للمقومات والممارسات والسلوكيات الايجابية والوطنية وإقصائها تماما من النهج الرسمي العام للدولة، وتشير قراءات المحللين إلى ان إيران هي التي تقف وراء ذلك، ولا شك ان هذا الأمر يشكل خطورة بالغة على حاضر ومستقبل الوجود العراقي.
وهنا لابد أن نشدد على النهوض بصرخة وطنية وصحوة سلمية مدنية لجميع العراقيين قبل فوات الأوان للعمل على تصحيح المسار ومعالجة الانحرافات الحاصلة في الحالة التي وقع فيها البلاد بعد سقوط صنم الطغيان والتي أدت إلى حدوث تحرر للانسان العراقي ولكن مع تحولات غير مرغوب فيها اطلاقا أدت إلى مآسي ومعانات كثيرة بفعل فساد السلطة.
وخاتم القول ومن أجل ان نضمن عراقا حرا للجميع لا بد من تغيير، ولا بد من كسر خشوع المكون الشيعي امام السلطة الفاسدة للنهوض بوجه الجور والظلم والفساد الجاري بالبلاد، ولابد من جهد حكيم وعقلاني لغلق ملف العذاب المقدس لاستغلاله من قبل السياسيين المارقين، وما من تحول في الانفس واعمال الأمة الا بفعل تغيير من داخل النفوس والعقول، وحان الوقت للعراقيين الخروج من قوقعة الخنوع والا فان الحاضر والمستقبل يحملان مجهولا كبيرا للبلاد، وخير ما نختم به المقال قول الله تع إلى "إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ"، وما من تقدم وتطور الا بتغيير.
كاتب صحفي – كردستان العراق
[email protected]