[esi views ttl="1"]
آراءأرشيف الرأيالفكر والرأي

رئيس يصنع العراقيل لنفسه

قبل انطلاق الثورة الشعبية في اليمن فبراير 2011 لم يكن من السهل على كثيرين اكتشاف الخلل الكامن في بنية الجيش اليمني تلك الناشئة عن قيام الرئيس السابق علي عبدالله صالح بتقوية الحرس الجمهوري على حساب الجيش وفقا لحسابات ضيقة تتمثل في إحاطة التوريث بأسباب النجاح.

عملية تقوية الحرس وإضعاف الجيش (عالميا لا يعد الحرس الجمهوري جزءا من الجيش بحكم اختلاف الاختصاص وظيفيا ومكانيا) لم تتم في فترة ملحوظة بل خلال سنوات عديدة وبإجراءات متعددة منها توسيع ألوية الحرس وزيادة منتسبيه وتخصيص صفقات الأسلحة له وزيادة امتيازات ضباطه وجنوده ومخصصاتهم المادية والعينية وتمكينه من المواقع الحساسة.. في المقابل اضعاف الجيش بطرق متعددة منها تصفية قادته وتقليص اعتماداته وعدم تحديثه تسليحا وتأهيلا والزج به في حروب متعددة تم ادارتها من قبل "القائد الأعلى" بحيث يتكبد الجيش خسائر متوالية ويفقد سمعته ورجاله لكي يصبح الحرس كامل الجهوزية والتسليح والانتشار بطريقة ترغم الظروف السياسية والاجتماعية في اليمن على القبول ب"أحمد" رئيسا من بعد أبيه.

جاءت ثورة التغيير السلمية لتعطي صالح ظهر المجن، معلنة رفض الشعب اليمني لفكرتي التمديد والتوريث وأجبرت عاصفة الاعتصامات والانشقاقات والتضحيات رأس النظام على التنحي بعد أن عجز تماما عن استعمال القوة التي تحت قيادة أنجاله وأقاربه، في قمع الثورة وثني الشعب عن مطالبه. وساهم الأشقاء في الخليج في تقديم صيغة أعطت للثورة نصف انتصار وللرئيس صالح وأنجاله نصف انحسار، وظل هاجس نشوب الاحتراب بين قوات الحرس الجمهوري التي يقودها نجل صالح وقوات الفرقة المؤيدة للثورة بقيادة علي محسن، حاضرا خصوصا بعد أن تأكد للمتابعين، طيلة مراحل الثورة، حرص العائلة على اشعال حرب تغير موازين الأمر وتفوز وفقها معايير الشوكة على مطالب الشعب ومصالح الوطن. هذا الهاجس أملى على واضعي المبادرة الخليجية ضرورة إعادة هيكلة الجيش التي تعد عملية صعبة طالما لا يزال أنجال صالح وموالوه مسيطرين على الحرس الجمهوري والقوات الخاصة والأمن المركزي والشرطة العسكرية وقوات النجدة وجهاز الاستخبارات.

خلال ذلك تساءل الكثيرون عن طبيعة الرؤية التي سيتبعها الرئيس عبدربه منصور هادي في عملية الهيكلة في ظل غموض أو غياب أية خطة في هذا الملف الشائك ومن هنا تم اعتبار قرارات الرئيس هادي الأخيرة بنزع ألوية من الحرس الجمهوري والفرقة المدرعة إلى مظلة المناطق العسكرية أمرا جريئا يندرج تحت خطوات الهيكلة ولاقت القرارات ترحيبا واسعا من قوى الثورة والدول الراعية للمبادرة دون أن يتساءل أي من هذه الأطراف هل هذه القرارات سليمة تماما، وهل هي ممكنة وسلسة من الناحية العملية، ثم أليس بالإمكان ما هو أسهل وأنجع!! وهو تساؤل لا يقصد به الاستنقاص من الرئيس هادي أو التشويش عليه بقدر ما هو مساعدة له على اختصار الطريق ذلك أن البلد لم يعد يحتمل استمرار الوضع المفخخ إلى ما لا نهاية فضلا عن قرارات تزيد الوضع تفخيخا وقد تعمل على تكثير مصادر التمرد وبواعث العصيان!

يمكننا الاختصار بالقول إن إقالة قادة الوحدات العسكرية المتنازعة أو إعادة توزيع هذه الوحدات وتشتيتها ليست المفاتيح الوحيدة الممكنة لاعادة الهيكلة بل إنها من وجهة نظري كمن يطيل على نفسه المسافات ويضع، بمحض ارادته، العراقيل في طريقه، وفي طريق البلد المتوقف مصيره على حكمة قرارات رئيسه خصوصا فيما يتعلق بالجانب العسكري والأمني. فمثلا كان يمكن البدء بإعادة هيكلة المسميات والأطر العسكرية بطريقة تنسحب، تلقائيا، على الاشخاص والمواقع دونما جلبة ولا ضجيج ولا تذمر هنا أو تمرد هناك. كأن يصدر قرارا بإلغاء الحرس الجمهوري وجعل الألوية المكونة له قوات مستقلة ماليا واداريا تتبع مباشرة قيادة الدفاع ورئاسة الاركان والأمر نفسه بالنسبة لألوية الفرقة الأولى إلى أن يتم إعادة ترتيب أوضاع الجيش وفق هياكل عسكرية متعارف عليها عالميا كقوات برية وبحرية وجوية، ومن شأن قرار كهذا أن تكون آثاره الميدانية طفيفة إذا تم التحضير الجيد له، على العكس فيما لو تم استبدال قائد الحرس بشخص غيره يتمرد عليه بعض الموالين لهذا القائد ويؤخرون من عملية التسليم ويحطمون هيبة القرارات الرئاسية، وبهذا الإجراء تكون الهيكلة طالت، مباشرة، عمق العملية وجوهرها وهي المناصب ذاتها والأشخاص الذين يشغلونها يتغيرون تلقائيا دونما قرار إقالة. ودنما تجزئة للمراحل أو تطويل للمسافات.

يبدو واضحا أن الرئيس عبدربه منصور هادي طوّق نفسه بعزلة شديدة، ومنع عن نفسه المستشارين الحكماء الناصحين لذا فهو يتعب محبيه لتبرير القرارت التي يصدرها دونما قالب ولا مقدمات ولا دراسة جدوى ولا تقليب خيارات. وإلا فإن الهيكلة أمر يستحق أن تعلن آليته المسبَبة والمزَمَّنة على الملأ بعد خضوعها للنقاش من قبل الخبراء وعرضها على الاطراف المعنية بحيث تأتي خطوات التنفيذ دون أن تلقى عصيانا ولا مقاومة ودون أن ينجِّم المنجمون متى "سيقلع الرئيس الضابط الفلاني وإلى أين سينقل القائد العلاني". آلية يكون بمقدور الناس معها أن يعرفوا أنه بحلول نهاية كانون الأول، مثلا، نكون قد وصلنا إلى الوضع س أو ص. ووجود مثل هذا الامر المعلن يعين على التقييم والاثراء والتعزيز لكل خطوة صائبة.

الحديث يطول إذا شرعنا في تقليب وعرض الخيارات الأفضل والأمثل على مستوى هذه القرارات أو غيرها.. واليمنيون كلهم يحبسون أنفاسهم خوفا من ارتكاس عملية النقل السلمي للسلطة ويدعون لهادي ليل نهار بالتوفيق ويسألون الله أن يحفظه ويسدد خطاه، فضلا عن السند الدولي القوي الذي يحظى به، ولذلك كله يحجم كثير من المراقبين من انتقاد أو تفنيد بعض قرارات هادي حتى لا يستغلها "معسكر الأماني اليائسة"، خصوصا أن هذا المعسكر يعوِّل على فشل الرئيس هادي للقفز من جديد إلى مناكب القرار. وهذا الحرص من قبل الشعب والخارج، يجب أن يثمنه الرئيس هادي ويحيط نفسه بمن يسددون خطوه لما فيه خير اليمن. وهؤلاء والله كثير، وسيجدهم إن هو بحث عنهم، وإلا فإنه سيكرر خطأ سلفه ويحصد، ولا بد، ثمار سياسته.

عودة إلى قرارات هادي الأخيرة التي يرتكز بعض معارضوها على معطى باهت تم صناعته في مطابخ نجل الرئيس السابق مفاده أنه لا يجوز تفتيت "قوات النخبة" التي صرف عليها البلد دم قلبه، وعمليا ما أسخف هذا المعطى حينما يكون الهم الأبرز لقيادة الدولة والجيش أن يكون الجيش اليمني كله على قدر عال من الجهوزية وعلى مستوى متقارب من الامتيازات والاعتمادات وعلى عقيدة وطنية واحدة ولاؤها للشعب وليس للأشخاص والمشاريع الضيقة.

مع هذا فإن هنالك مثالب لهذه القرارات أثبتت الأيام الماضية وجاهتها منها أن نقل الألوية من تحت مظلة الحرس إلى مظلة المناطق العسكرية مع بقاء كيان الحرس بألوية أخرى هو أمر يثير رفض بعض منتسبي هذه الألوية ليس بدافع الولاء لنجل صالح بل لأن نقلهم يعني خسارتهم لامتيازات مادية تتوفر في الحرس ولا تتوفر في غيره. وعندما يتم حل هذه المشكلة عن طريق نقلهم بنفس مخصصاتهم سيكون التذمر حينها من نصيب زملائهم في الالوية الاخرى التي لم تكن تابعة للحرس. كما أن نقل هذه الالوية مع بقاء ذات القيادة في ذات المسمى العسكري (الحرس) يجعل الباب مفتوحا للتواصل والتحريض والمغازلة من قبل تلك القيادة بينما لن يحدث ذلك اذا سبقت هيكلةُ المناصب هيكلةَ الشخوص. ووجدنا كيف أن اللجنة العسكرية لم تستطع اخماد تمرد أحد الالوية المنقولة في ذمار إلا بواسطة ضمه (من جديد) لمعسكر 48 التابع للحرس!!

إلى ذلك فإن التبعات النفسية على الرئيس هادي بعد اتخاذ هذه القرارات (غير المجدية كثيرا على الواقع العملي من وجهة النظر هذه) والتمردات الناجمة عنها، ستجعله يتأخر أسابيع وربما شهورا قبل اتخاذ قرارات جديدة. وفي تقديري أن القرارات الصغيرة قد تجرّئ بعض المجاميع على التمرد عليها أكثر بكثير مما قد تفعله القرارات الكبيرة والحاسمة وذلك وفقا للمزاج العسكري المجبول على الاعجاب بالاقوياء. ضف إلى ذلك أن القائد الأعلى عند إقالة أحمد علي أو علي محسن أو إلغاء منصبيهما فإنه بذلك يحصد مؤقتا غضب الشخصين المعنيين فقط مهما بلغ حب بعض جنودهما لهما لكنه حين يغير واقع ألوية متعددة فإنه يفتح على نفسه تذمرات متنوعة الأشكال والأسباب والأماكن.

رئيسنا الجديد محتاج أن يتعرف على مرؤوسيه الذي كان محجوبا عنهم طيلة كونه نائبا للرئيس. ومحتاج أن يستذكر على الدوام أن القائد الناجح هو الذي يستطيع شحذ كافة الطاقات والقدرات والموارد الكامنة في بلده ومضاعفة أدائها، بعد أن حفظ في ذهنه المتوقد خارطة دقيقة لهذه القدرات والطاقات والموارد.. يعرف بالضبط متى ينبغي عليه التريُّث ومتى ينبغي عليه الإسراع، ويدرك جيدا ن ثمة طرقا عديدة قد يؤدي جميعها إلى الغايات المنشودة لكن هذه الطرق متباينة المسافات والتضاريس منها السهل ومنها الوعْر، منها المتعرج ومنها السريع، فلماذا إذن، يسلك بنا "خط مناخة" من أجل الوصول "صرواح"؟!

زر الذهاب إلى الأعلى