هذا على الأرجح هو لسان حال رئاسة الجمهورية التي نسبت صحف عربية ومحلية إلى مسئول فيها أمس الأول الإثنين قوله إن المخول بتحديد من هو المتمرد على الشرعية الدستورية من غيره ليس "بعض وسائل الإعلام" بل رئاسة الجمهورية.
نصف هذا الكلام يبدو صحيحا ونصفه الآخر خطأ: فالصحفيون لا يبدون الوحيدين الذين لا يتمتعون بصلاحية تحديد هوية المتمرد، بل رئاسة الجمهورية التوافقية هي الأخرى تبدو منزوعة من هذه الصلاحية، حيث يبدو أن من يتمتع فقط بصلاحية تحديد من هو المتمرد على الشرعية الدستورية من غيره هم المتمردون وحدهم.
تصريح المسئول الرئاسي أتى ردا على تناولات صحفية بينها مقالي (المتمرد الركن) الذي أشار بإصبع إلى قائد الحرس الجمهوري العميد الركن أحمد علي عبدالله صالح بإعتباره متمردا على الشرعية الدستورية، بعدما رفض مئات الجنود والضباط المنتمين إلى أحد ألوية فرقة مشاة جبلي (حرس الجمهوري) الإنصياع لقرارات الرئيس عبدربه منصور هادي الصادرة منتصف الأسبوع الماضي، وبعدما نفذ هؤلاء المتمردون حصارا على وزارة الدفاع في العاصمة في إطار تصعيد تمردهم نهاية الأسبوع نفسه. وبين قرارات رئاسة الجمهورية الصادرة الإثنين قبل الماضي وتصريح أحد مسئوليها لوسائل الإعلام الإثنين الفائت، شهدت البلاد حركة تمرد عرقلت سير تنفيذ القرارات الجمهورية وماتزال في طور التصاعد. لكن المتمرد العسكري كما يبدو يبقى برئيا ومجهول الهوية حتى يثبت أنه صحفي.
"رئيس الجمهورية القائد الأعلى للقوات المسلحة هو من يحدد من هو الذي خرج عن اوامره أو من ينفذها، وليست بعض وسائل الإعلام"، هذا ما صرح به مسئول في رئاسة الجمهورية لصحيفة "الرأي" الكويتية وتناقلته عنها صحف ووسائل إعلام عربية ومحلية بينها "الإتحاد" الإماراتية الإثنين الفائت. المسئول الرئاسي، الذي لم تسمه الصحيفة الكويتية، أضاف قائلا: "إن قائد الحرس الجمهوري يتمتع بروح الإنضباط وتنفيذ أوامر قيادته ممثلة بهادي".
ويبدو أن المسئول الرئاسي أدلى بتصريحاته وهو مقلوب على رأسه فرأى التمرد انضباطا. في مقالي المنشور في صفحتي هذه الأحد الماضي، بينت كيف أن قائد الحرس الجمهوري حجز موقعه على رأس قائمة المتمردين على الشرعية ومعرقلي عملية الإنتقال السلمي للسلطة في اليمن منذ أصدر الرئيس هادي أول حزمة قرارات جمهورية حملت تغييرات عسكرية في أبريل الماضي. فقد شكل اللواء الثالث مدرع (حرس) أحد أكبر العراقيل أمام تلك الحزمة بعدما شهد تمردا على قرار قضى بتسليم العميد طارق محمد صالح إبن عم أحمد والمعين من قبله قيادة اللواء لقائد عسكري من خارج العائلة.
كانت تلك أول حركة تمرد يقودها أحمد علي على الشرعية، ولن تكون الوحيدة. فكلما أصدر هادي قرارا جمهوريا يمس وحدة تابعة لقوات الحرس الجمهوري، كان هذا القرار يصطدم بحركة تمرد مشهودة. وقد بينت في مقاليأن المرة الوحيدة التي لم يتمرد فيها أحمد علي على قرارات هادي كانت حين أصدر الأخير حزمة القرارات الثانية في مايو الماضي: "ليس لأن القائد الشاب قرر الإنصياع للشرعية المتمثلة في قرارات هادي طبعا، وإنما لأن تلك القرارات لم تمس الوحدات العسكرية" التابعة له.
الشاهد على هذا حدث إثر إصدار الرئيس هادي حزمة قرارات ثالثة الأسبوع الماضي. فهذه القرارات، "التي قضت بفصل عدد من ألوية الحرس الجمهوري الواقعة تحت إمرة أحمد ونقل تبعيتها إلى قيادات أخرى داخل الجيش، واجهت حركات تمرد مختلفة ما تزال مستمرة تجاوزت في الغالب حدود التمرد العسكري كما هو الحال مع حركة التمرد التي قام بها عدد من جنود وضباط اللواء الثاني مشاة جبلي (حرس جمهوري) في لودر بأبين فجر الثلاثاء (قبل) الماضي، اليوم التالي لصدور القرارات".
"رفض غالبية جنود وضباط اللواء الثاني مشاة قرار هادي الذي قضى بنقل تبعية لوائهم من قيادة الحرس الجمهوري في صنعاء إلى قيادة المنطقة الجنوبية". لكن، بين حركة التمرد الأولى التي شهدها اللواء الثالث مدرع في أبريل وحركة التمرد الثانية التي بدأت في اللواء الثاني مشاة، هناك بعض المتغيرات الهامة وبالغة الخطورة التي سيتم تفصيل أبرزها في مقال قادم ونكتفي هنا بإيراد متغير واحد بإيجاز.
هذا المتغير يتمثل في أن متمردي اللواء الثالث عبروا عن تمردهم من خلال رفض قرارات هادي دون تسليم اللواء بموقعه وعتاده لأطراف غير معنية من خارج الدولة بينما عبر متمردو اللواء الثاني عن رفضهم لقرارات هادي الأخيرة بطريقة تتجاوز حدود التمرد العسكري إلى مستوى بالغ الخطورة: "سلموا مواقعهم العسكرية وعدة وعتاد اللواء التي تشمل أسلحة ثقيلة بينها دبابات ومدرعات ومدفعية لرجال القبائل ومسلحي اللجان الشعبية".
ولم تكن تلك سوى بداية حركة التمرد الثانية التي ستتطور إلى سلسلة من أعمال البلطجة والتخريب وتهديد ما تبقى من مؤسسات ترمز للسيادة الوطنية. فبعد مغادرة جنود وضباط اللواء الثاني مشاة وصعودهم إلى صنعاء، قام هؤلاء المتمردون بتصعيد تمردهم "إلى مستوى الإعتداء على وزارة الدفاع التي يفترض بأن ولاءهم المباشر والوحيد لها: حاصروا هذه الوزارة السيادية الخميس الماضي مسنودين بأفراد آخرين من الحرس ومسلحين مدنيين غير معروفي الهوية" بعد أن انطلقوا رفقة المتمردين من معسكر الحرس الجمهوري في السواد.
أين هي روح الإنضباط التي رآها المسئول الرئاسي لدى قائد الحرس الجمهوري إذن؟ أم أن ما نراه حركة تمرد مشهودة لا تبدو كذلك بالنسبة للمسئول الرئاسي؟ هل يمكن تطبيق "نظرية النسبية" على حركة التمرد الجارية بحيث يصح توصيفي لها بإعتبارها حركة تمرد ويصح توصيف المسئول الرئاسي لها با عتبارها سمة من سمات روح الإنضباط التي قال إن قائد الحرس الجمهوري يتمتع بها؟ ربما! لكن، في هذه الحالة، يتعين على المسئول الرئاسي "النسبي" أن يحدد بالضبط وجه "الإنضباط" الذي رآه في الأعمال التي ينفذها جنود وضباط اللواء الثاني مشاه في صنعاء منذ الخميس الماضي: هل هي مجرد تدريبات ومناورات عسكرية على حصار ونهب مؤسسات العدو (على إفتراض أن النهب جزء من المهارات العسكرية) ام انها مجرد عملية "تَدْلِيْك" و"دَغْدَغَة" للشرعية الدستورية؟
لقد كان تصريح المسئول الرئاسي غريبا جدا ومثيرا لعلامات الإستفهام من عدة وجوه. فمن جهة، أتى هذا التصريح في ظل حركة تمرد مستمرة يقودها أحمد علي تحت مبرر إحتجاجات لا صلة له بها يقوم بها جنود تابعون له، وهو التمرد الذي تصاعدت وتيرته نفس تحت نفس الدعوى أمس الثلاثاء، بالتزامن مع إصدار الحرس الجمهوري بيانا دان ما أسماه بالحملات الإعلامية المغرضة التي تستهدف قوات الحرس الجمهوري وقائدها أحمد علي نافيا علاقة الأخير بأي تمرد على الشرعية الدستورية.
ومن جهة ثانية، ليس بوسع بيان الحرس الجمهوري تبرئة أحمد علي من صفة التمرد على الشرعية الدستورية في الوقت الذي يواصل فيه جنود وضباط تابعون له حركة تمرد مشهودة على قرارات هادي. فإقناعنا بأمر كهذا يتطلب منا التخلص من عقولنا وإستبدالها بعقول من نوعية العقول التي يتراءى للمرء أن أحمد علي صرفها لسفهاء الفيسبوك الذين يتولون شن الهجمات القذرة على منتقديه من الصحفيين والكتاب المستقلين والعزل! وإذا ما حدث هذا وسلمنا جدلا بأن لا علاقة لأحمد علي بحركة التمرد الجارية، فمن يقنع المجتمع الدولي بذلك؟ ألم تتصاعد التهديدات الدولية مؤخرا في وجه علي عبدالله صالح وعائلته باتخاذ عقوبات في حقهم جراء عرقلتهم لعملية الإنتقال السلمي للسلطة؟ لا أظن أن جون برينان الذي حذر عائلة صالح منذ بضعة أيام كان يلوح بتهديده في وجه الفنان حسين محب مثلا!
الوجه الثالث الذي يدفعنا إلى التساؤل عن حقيقة هوية المسئول الرئاسي ويثير إستغرابنا هو أن تصريحه أتى بعد يومين تقريبا من تصريح مناقض تماما لفحوى وروح التصريح المذكور نشرته صحيفة "الإتحاد" الإماراتيه وتناقلته وسائل إعلام محلية منسوبا إلى مصدر في الرئاسة قال ما مفاده إن هادي يواجه تمردا ومحاولات للإنقلاب عليه من قبل صالح وعائلته. فأي الموقفين يمكن إعتماده؟
الإجابة على هذا السؤال هي الآن في ملعب رئاسة الجمهورية التي باتت مطالبة بالتوضيح لاسيما وان التصريح المنسوب لها أدان ضمنيا صحفيين انتقدوا تعدي قائد الحرس الجمهوري على شرعية وصلاحيات الرئيس هادي واستخدم كغطاء لتهديدهم علنا وسرا كما حدث معي. إضافة إلى هذا، فقد بدا المسئول الرئاسي وكأنه يتحدث بلسان رئيس الجمهورية السابق علي عبدالله صالح وليس الرئيس الحالي عبدربه منصور هادي.
فعدا عن تحيزه البين لأحمد علي ضدا على وسائل إعلام وصحفيين مارسوا حقوقهم الدستورية والقانونية في حرية التعبير وممارسة المهنة والنقد دون تجريح أو إساءة لأحد، بدا هذا التصريح وكانه لا يعبر عن موقف الرئيس هادي فعلا لأنه لم يصدر عن القناة الإعلامية الرسمية المتمثلة في وكالة "سبأ" للأنباء. وهذا يمثل الوجه الرابع الذي يثير الشك حول حقيقة هوية المسئول الرئاسي صاحب التصريح، وهو ما استند عليه أحد زملائي الصحفيين الذي يعمل مراسلا لوكالة أنباء عالمية شهيرة في تغليب الإحتمال التالي: من المرجح ان التصريح لم يصدر عن رئاسة الجمهورية أو أي مسئول فيها ولا يعبر عن موقف الرئيس هادي بالتالي بل ربما صدر عن أجهزة الدعاية التابعة لصالح ونجله وعكس موقفهم.
لا يمكن الجزم بصحة هذا الاحتمال بقدر ما تظل علاقة تصريح المسئول الرئاسي بموقف الرئيس هادي محل شك. لكن، في حال، خرج ذلك التصريح من قناة غير قنوات رئاسة الجمهورية وعبر عن موقف غير موقف الرئيس هادي، فيتعين على السكرتير الصحفي لرئيس الجمهورية عدم تفويت المسألة لأن التصريح نشر في صحيفتين عربيتين معروفتين ويجب أن يسارع إلى استفسار صحيفة "الرأي" الكويتية و"الإتحاد" الإماراتية عن هذا الأمر باعتباره لا يمثل تجاوزا لتقاليد مهنة الصحافة فحسب، وإنما تجاوزا وتعديا لشخصية الرئيس هادي الإعتبارية وشرعيته أيضا فضلا عن التعدي على صلاحيات الأستاذ يحيى العراسي نفسه. إذا كانت علاقة هذا التصريح بموقف رئيس الجمهورية غير صحيحة، فإن هذه ستشكل إهانة غير مسبوقة للرئيس الشرعي والوحيد لليمن وبداية لسلسلة من الإهانات المشابهة لاسيما وأنه (التصريح) اتى في ظل حركة تمرد على شرعية الرئيس، وهذا لا يشكل سوى الخبر السيء فقط.
الخبر الأسوأ هو: إذا كان هذا التصريح قد صدر عن مسئول في رئاسة الجمهورية فعلا (وهو احتمال غير مستبعد إذا ما أخذناه من باب سياسة جبر الخاطر)، فإنه سيكون أغبى ردة فعل وأسوأ موقف تتخذه رئاسة جمهورية في بلد ما من حركة تمرد عسكري هبت في وجهها عبر التاريخ. وسيكون هادي أول رئيس يبرر التمرد عليه ويحرض كل من هب ودب على الخروج عن شرعيته.
وفي نهاية المطاف، تبقى هناك حقيقة واحدة ومشهودة من الجميع: الرئيس هادي هو أعلى تمثيل للشرعية الدستورية والدولة اليمنية إجمالا وهو يواجه اليوم بصفته هذه (وليس بشخصه) حركة تمرد واضحة ومشهودة من قبل قائد الحرس الجمهوري. وعلى اليمنيين جميعا ان يصطفوا وراء هادي ويدافعوا ليس عنه كشخص أو كمركز قوى، بل بإعتباره يمثل موقع رئاسة الدولة ورأس السيادة الوطنية في اليمن.
ولئن كانت حركة التمرد الأولى التي واجهتها قراراته في أبريل الماضي قد استمرت لأكثر من شهرين رغم التدخلات الدولية ورغم حدوث عمليتي تسليم للواء بإشراف أممي مثله جمال بن عمر (ما تزال مشكلة هذا اللواء معلقة حتى الآن)، فإن لا أحد يعرف كم ستستمر حركة التمرد الثانية الجارية اليوم في وجه حزمة القرارات الجمهورية الثالثة التي أصدرها مؤخرا. لكن، من المرجح أن التمرد الجاري سيستمر طويلا وسيتطور إلى صور بالغة الخطورة وغير محدودة العواقب (سنحاول توضيحها في المقال القادم) في حال لم يتخذ الرئيس هادي الخطوة المنتظرة منه: إقالة العميد الركن أحمد علي عبدالله صالح من قيادة الحرس الجمهوري فورا ودونما تأخير (مع اللواء علي محسن الأحمر من قيادة الفرقة الأولى مدرع إن أراد لخطوته هذه زخما وتأييدا سياسيا وشعبيا أكبر واوسع). وأتصور أن الفرصة مواتية لاتخاذ قرار كهذا، وأنا على ثقة أن الرئيس هادي يعرف ذلك بقدر ثقتي من النتيجة التالية: أيام العميد الركن أحمد علي عبدالله صالح في قيادة الحرس الجمهوري باتت معدودة، واحتمال عودته في المستقبل لتقلد أي موقع حساس في البلد يرقى إلى موقعه الحالي يساوي صفر.