اعتذرت واشنطن لباكستان في نوفمبر 2011 عن غارة خاطئة وفي يونيو الماضي اعتذر أوباما لأسر 17 أفغانياً وعرض 50 ألف دولار فدية عن كل ضحية بينما 45 مدنياً قتلوا في المعجلة لا يستحقون سطر اعتذار أمريكي بسبب "دبلوماسية الشقق المفروشة" لليمن!
بقدر ما أجدني معجباً بأداء الرئيس هادي وإصلاحاته السياسية والعسكرية التدريجية، وإن طغى عليها عقلية رجل تسويات، بقدر ما أجدني ضَجِراً من سياسته الخارجية الرخوة. ربما لم يحن وقت استعادة القرار اليمني المختطف بين واشنطن والرياض وعواصم أخرى غير إنني كصحفي لست معنياً بحسابات الساسة وضبط ساعتهم. ينبغي على أحدنا انتقاد الرئيس هادي وحثه على عدم لعب دور شرطي الولايات المتحدة والسعودية الذي كانه علي عبدالله صالح. فلا السعودية لتكون أسوأ، أو أحسن مما كانت لصالح، لمجرد رفض هادي المشاركة في مؤتمر طهران واستقبال مبعوثها، ولا الولايات المتحدة لتكف عن طلب المزيد من التنازلات إلى أن تحرق شعبيته وتورطه ما لم يطالب هادي بوقف، أو على الأقل تقليل، غارات الطائرات بدون طيار التي جاوزت كل حد واستنفدت كل ذريعة.
يجب الضغط على الولايات المتحدة، إن أردنا إنصافاً بأنفسنا، للاعتذار رسمياً لكل الضحايا المدنيين الأبرياء. حتى أعضاء تنظيم القاعدة الذين قتلتهم الطائرات الأمريكية، وما تزال كغارة جوية قتلت أمس الأول من سبتمبر 9 أشخاص في حضرموت قيل كالعادة في الإعلام "يعتقد بانتمائهم للقاعدة" - أقول وجهة نظري بتجرد تام: إن قتل أي مواطن يمني، حتى أنور العولقي، قبل صدور قرار اتهام من النيابة ودون محاكمة قضائية عادلة ومصادقة رئيس مجلس القضاء الأعلى هو جريمة قتل خارج القانون تتساوى مع جريمة قتل المتظاهرين في جمعة الكرامة مع فارق طفيف هو هوية القاتل وما قتلوا من أجله ليس إلا.
لا تُكسب الحرب على القاعدة، واسألوا نازحي أبين، بصواريخ البريداتور. "إن أكياس الجثث ليست مقياس نجاح" هكذا علق باحث أمريكي "جيورجي جونسن" على الغارات الأمريكية في بلادنا. ينبغي علينا كيمنيين احترام القانون الذي يحترمه الأمريكيون في بلادهم وينتهكوه في بلدنا. ونحن أولى بتبني طرح مقرر الأمم المتحدة الخاص فيليب ألستون وانتقاده عمليات القتل خارج القانون الدولي التي تقوم بها الولايات المتحدة بقدر كبير من الاستسهال وصفه بعقلية بلاي ستاشن! وهذا مخُّ ما أريد قوله للرئيس هادي قبل أن يتورط أكثر ويعجز عن قول لا مستقبلاً. فغارات واشنطن منذ توليه الرئاسة فاقت غارات سنوات من فترة حكم سلفه. والشقي من اتّعظ بنفسه والسعيد من اتعظ ببرويز مشرف.
لا وقت أنسب لتغيير صورة اليمن منه الآن. كأنما لا تستقيم علاقة اليمن بالعالم إلا بطأطأة الرأس ومد يد السؤال بهوان العاجز عن الظهور بمظهر لائق. الرئيس هادي غير مجبر على إتباع نهج سلفه وتقديم اليمن كشقة مفروشة أو دار أيتام! هل عليَّ إجراء مقارنة لتبيان مهانة سياستنا الخارجية؟ في ديسمبر 2009 قتل 45 مدنياً بينهم 21 طفلاً وامرأة في المعجلة وترفض الولايات المتعجرفة الأمريكية الاعتذار أو حتى الإقرار بها كخطأ غير مقصود بينما أصدر الرئيس اوباما بيان اعتذار– والكلام للصحفية الكندية ميشال شيبرد- إثر قتل الجندي الأمريكي روبرت بيلز 17 أفغانياً في يونيو الماضي واعداً بمحاكمته وكشف الحقائق وعرض على أسر الضحايا 50,000 دولار فدية عن كل ضحية. من لديه رقم هاتف أوباما؟ يا إلهي كم اليمني رخيص: هان في الداخل فاسترخصه الخارج حتى أنه لا يستحق سطر اعتذار!
مثال آخر أمرُّ من سابقه: باكستان هو البلد الأول، تليه اليمن، من حيث عدد الغارات الأمريكية داخل أراضيه غير إن مقارنة بسيطة بين اليمن وباكستان وطبيعة علاقتهما بالبيت الأبيض ترفع رأساً وتخفض آخر! علاقة واشنطن بصنعاء تتسم بالتبعية المُهينة بينما علاقتها بباكستان مبنية على الاحترام وتفاوض الأنداد. تطالب باكستان مثلاً دفع 5 آلاف دولار رسماً جمركياً عن كل سيارة نقل تمر فوق أراضيها، المطلب الذي اعتبرته واشنطن "جشعاً وصعباً" بالنظر لحجم حركتها اليومية على الحدود الباكستانية الأفغانية؛ ولا تزالان بين شد وجذب!
دبلوماسياً طالبت باكستان، من موقع قوة، اعتذار واشنطن عن غارة خاطئة قتلت مدنيين في مارس 2011 بينما يبرع النظام اليمني، قبل وبعد الثورة، بأداء مهمة قذرة: التستر على غارات واشنطن إن أصابت الهدف وإدعاء ارتكابها نيابةً عنها إن قتلت أبرياء. حتى أن صنعاء لم تعبر ولا مرةً واحدةً عن إدانتها، أو أسفها، لغارة أمريكية خاطئة كتلك التي قتلت الطفل عبد الرحمن العولقي أو حصدت 30 مدنياً في جامع جعار القديم! هل تريدون مثال آخر؟ في نوفمبر 2011 قتلت غارة خاطئة للناتو جنود باكستانيين فكان رد الفعل كالصاعقة: علقت باكستان التعاون الدبلوماسي والعسكري مع أمريكا وأغلقت معابرها الحدودية أمام قوافل إمدادات الناتو إلى أفغانستان وأمهلت وكالة الاستخبارات CIA 15يوماً لإخلاء قاعدة شامسي الخاصة بالطائرات دون طيار. أصيب الناتو بالهلع وأصدر وزيرا الدفاع والخارجية الأمريكيين ليون بانيتا وهيلاري كلينتون بياناً مشتركاً عزّيا أسر الجنود الباكستانيين وتملقا إسلام أباد لمعرفتهم أنها تقف دوماً في موقع من يملي الشروط، أو يعمل باستمرار على تحسينها، بينما تقف صنعاء في موقع "موظف تحويلة" يطيع الأوامر بامتنان ويكفي إيفاد جمال بن عمر مبعوثاً أممياً، أو مندوباً سامياً، لحلحلة عُقد اليمن.
تنتهج باكستان دبلوماسية مستقلة مع واشنطن فيما تنتهج اليمن دبلوماسية الشقق المفروشة. وهذا دليل من مئة: قتلت واشنطن رجلين أحدهما المطلوب الأول على الكرة الأرضية دون إطلاع مسئولي البلدين بتفاصيل العمليتين قبل ساعة الصفر خشية تسربها: أسامة بن لادن في باكستان وأنور العولقي في اليمن فماذا كانت ردة فعل البلدين؟ اعتبرت باكستان العملية انتهاكاً لسيادتها الوطنية وتصدعت علاقتها بواشنطن بينما في اليمن كأن شيئاً لم يقع بل وظهر سوق نخاسة. فالنظام سوّق العملية كبرهان جدية حربه ضد الإرهاب، فيما شككت المعارضة في قتل العولقي ابتداءً مخافة انتعاش آمال صالح وتملصه من توقيع المبادرة الخليجية ثم ما فتئت تبارك العملية بتصنعٍ ورياءٍ مع محاولة لعب دور الواشي غير الفطن: أرأيتم؟ صالح وفر مخبأ للعولقي منذ سنوات والآن كشفه للبقاء في الحكم مستغلاً مخاوف الأسرة الدولية من القاعدة (قال د/ناصر العولقي للصحفية ميشال شيبرد إن الرئيس صالح أرسل له رسالة عبر رئيس الوزراء السابق "قل للدكتور ناصر باني اقسم بالله ليس لي أي علاقة بمقتل ابنه" لكنه لم يستبعد معرفة قياديّ جهاز الأمن القومي).
كان التنافس شديداً في اليمن إذن على "شرف" الوشاية بالعولقي وفي باكستان العكس: أُسقطت إحدى المروحيات المشاركة في دهْم مخبأ بن لادن واعتقل متعاونون محليون بتهم الخيانة وحكم بالسجن 33 عاماً على شاكيل افريدي الذي كشف مخبأ أسامة بن لادن وهو طبيب في منظمة تلقيح للأطفال جندته CIA للقيام بحملة تلقيح وهمية لجمع عينات الDNA وعينات دم لكل طفل في ابوت آباد لمعرفة إن كان لهم أي صلة قرابة ببن لادن. جنّ جنون البيت الأبيض والكونجرس وحاولوا الضغط على باكستان للإفراج عن الطبيب دون جدوى فأقرت واشنطن بعد أن استيأست تقليص 33 مليون دولار من مساعداتها لباكستان بمعدل مليون دولار عن كل سنة سجن للطبيب افريدي.
ترى كم تحتاج اليمن من الوقت لاستعادة سيادة قرارها المختطف؟ وحده الرئيس هادي المعني بالإجابة.