مقال عن "الرسوم المسيئة والشعوذة الاعلامية" نشر في صحيفة "الناس" قبل سنوات ينطبق على تداعيات الفيلم المسيء:
الوكالات الإعلامية الكبرى في العالم بيد أناس أصحاب مشروع يعرفون جيداً كيف يتحكمون بالرسالة الإعلامية فيبرزون أحداثاً ويخفون أخرى وينفخون أشخاصاً ويهملون آخرين.
الإعلام لعبة ذكية.. تقوم على دراسات في علم النفس وإسقاطات مدروسة للألفاظ وزوايا الالتقاط وكذلك التوقيت والدبلجة وطريقة مناقشة الحدث من زوايا جانبية لا تمس صلب الموضوع، وإلى جانب ذلك كله ثمة ما يسمى ب"الشعوذة الإعلامية" والغرض منها صناعة أخبار لصرف أنظار الناس عن أخبار أخرى.
ولعل مسألة الرسوم المسيئة للحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم هي إحدى هذه الشعوذات، والمتأمل لتوقيت ظهورها يدرك اللعبة بجلاء.
في الجولة الأولى من الرسوم كان الذبح في العراق على أشده.. مئات الجثث مجهولة الهوية، أصناف من القتل الوحشي والإبادة الطائفية والتهجير والإحلال.. مضافاً إلى ذلك سجن أبو غريب حيث كان الأمريكان يأتون بالكلاب لتمارس الرذيلة مع إمام مسجد "سني" يبلغ التسعين من العمر!
إزاء ذلك لم تتحرك شعرة في العالم الإسلامي من طنجة إلى جاكرتا رغم أنه لو تهدم الكعبة حجراً حجراً أهون من سفك دم امرئ مسلم.. لكن حملة الرسوم المسيئة سرعان ما حققت نتائجها نجاحاً وخرج الشارع الإسلامي عن بكرة أبيه وسقط الضحايا في أكثر من مكان وقامت مؤسسات، ولزيادة الحبكة كان على الدنمارك ألا تعتذر.
في الجولة الثانية من الرسوم كان الشعور العربي والإسلامي تجاه فلسطين قد بدأ يعود إلى مجراه الطبيعي وكانت جميع التوقيعات في مشاركات الانترنت تحمل شعار غزة لكنها بسرعة أصبحت "إلا رسول الله"..
عليك صلاتي وتسليمي يا حبيب الله، لكننا نقع في الفخاخ بسرعة تماماً كما في عام 82م عندما اجتيحت بيروت والجماهير العربية مشغوفة بكأس العالم، وعلى ذلك قس.
أحياناً يكون هناك حدث مؤسف، يهتم لوبيات اليهود القائمون على الوكالات الإعلامية العالمية ألا يبقى في ذاكرة الشعوب، لهذا يصاحب الحدث خبر عن اقتراب مذنب أو نيزك كبير من كوكب الأرض سوف "يفعطشها مثل الملح" أو أن امرأة في كاليفورينا أنجبت توأم قرود.. أو أن شريطاً لأيمن الظواهري حصلت "الجزيرة" على نسخة منه يحذر فيه الحكومات العربية بما لا يمكنها أن تعمل حسابه.
أيام سقوط بغداد شغلوا الشارع المصري بتناولات صحفية عن عذرية نانسي عجرم من عدمها.. وقبل أشهر أنزلت السلطات اليمنية مشروعاً للتعديلات الدستورية هدفه شغل النخب الحزبية عن مناهضة موجة الغلاء الذابح في كيس القمح. (في حينها).
فرقعات.. مجرد فرقعات لكنها تخدم من قبل الفضائيات ووسائل الإعلام بما يجعلها قضية رأي عام تصرفه عما يجب.
هنالك نوع ثالث من الشعوذة الإعلامية يتمثل بالحروب التجارية بين عمالقة التصدير في العالم حيث قامت الولايات المتحدة باختراع أسطورة "سارز" لتضرب الاقتصاد الصيني وتجعله يعيش أشهراً في الكساد.
قبلها اخترع الفرنسيون "جنون البقر" لكي يصرفوا المستهلك العالمي عن أكل اللحوم البريطانية وينصرف نحو الدجاج الفرنسي.. لكن البريطانيين ردوا الصاع صاعين وابتكروا "انفلونزا الطيور". وهكذا مازالت الحرب دول والشعوب العربية فئران تجارب لفرقعات الإعلام.
كهنة الإعلام العالمي يدركون جيداً مدى الغيرة الدينية لدى الشعوب الإسلامية ولهذا يعرفون من أين يدخلون على هذه الشعوب.
فمثلاً الشعب الباكستاني صاحب نسبة الـ60% أمية قد يقلع "برويز مشرف" بدافع أنه عميل لأمريكا وعدو للحركات الإسلامية.. وبالتالي سيلعب دهاة الأمريكان على هذا الوتر لتستبدل هذا العميل المفضوح "مشرف" بعميل آخر غير مفضوح "يعرعر" لأمريكا ويسلمها النووي ويحبه الشعب.. تماماً كما حدث مع الشاه محمد رضا بهلوي الذي استبدلوه بالخميني عبر صفقة في منفاه بفرنسا مع جماعة "ريغان". سبقت الانتخابات الأمريكية وكانت سببا في فوز ريغان.
(واليوم الحزب الجمهوري يحتاج إلى فرقعة ترجح كفته في الانتخابات وهو السر الواقف وراء قصة الفيلم المسيء، ولهذا كان الرئيس عبدربه منصور هادي موفقا حين وصف مقتحمي السفارة الأمريكية أمس بأنهم لا يعرفون المخططات الصهيونية. وأضيف: أو أن بعضهم ضالع في تنفيذها! إضافة إلى المجموعات الإيرانية التي رأت في القصة فرصة مناسبة لإنقاذ الأسد وصرف الأنظار عن مذابحه بحق الشعب السوري).
وبسبب منهاج الشعوذة الإعلامية لا أحد يتذكر فضيحة "ووترجيت" أو إيران كونترا حيث اشترت إيران سلاحاً من أمريكا بـ500 مليون دولار عبر إسرائيل أثناء حربها مع العراق.. لكن الجميع يتذكرون فرقعة "آيات شيطانية" للكاتب الإيراني سلمان رشدي.
شعوذة وراء أخرى ونحن ننجر بلا بصر ولا بصيرة وبالتالي يصبح المتلقي الجاهل أداة سهلة بأيدي خصومه الدهاة.