أرشيف الرأي

محنة التعليم الجامعي في اليمن

إذا كان عقل الأمة (الجامعات) وضميرها (القضاء) بخير (وهو ما نفتقدهما اليوم معا هنا في اليمن) فبريطانيا بخير ويمكن إصلاح أي شيء. هكذا رد ونستون تشرشل على المتشائمين حول وضع بريطانيا تلك الإمبراطورية التي كانت تحكم ربع مساحة العالم وعاصمتها لندن وهي تتعرض لقصف الطائرات الالمانية في الحرب العالمية الثانية.

أما مهاتير محمد الذي أنتشل ماليزيا من براثن التخلف والانحطاط وأحاطها بسياج آمن من ويلات الحروب الطائفية والتعصب الديني والمذهبي والقومي فقد أشار في كتابه كيف نبني أمة؟: عندما كنا نصلي نتجه نحو الكعبة وعندما كنا نتجه لبناء ماليزيا نتجه نحو اليابان. واليابان بهذا المعني كانت تمثل قمة المعرفة العلمية وصرامة المعايير الاكاديمية والتفوق العلمي ، مما حدا بلجنة مكونة من 18 عالما أمريكيا برئاسة ديفيد جارندر أن يرفعوا في عام 1983 تقريرا إلى الكونجرس والرئيس الأمريكي تحت عنوان : أمريكا أمة في خطر بسبب تدني مستوى التعليم في مؤسساتها التعليمية مقارنة بالمؤسسات التعليمية اليابانية. لقد أطلق هذا التقرير صرخة الاستغاثة " أن أمتنا تخسر حرب اللامبالاة" وهي الأمة التي تتربع على رأس سلم التفوق العلمي والمعرفي في العالم الحديث.

فما بالنا نحن الذي نقع في أسفل هذا السلم؟ ماذا يعني أن تكون إسرائيل اليوم خامس دولة في العالم في الإنتاج الحربي ومن أوائل الدول في عدد العلماء بالنسبة للقوى العاملة لديها ومن أوائل الدول في براءات الاختراع بالنسبة لعدد سكانها وفي المقابل ليس هناك جامعة عربية واحدة من بين أفضل مأتي جامعة في العالم؟! أو لم يقل علي بن أبي طالب كرم الله وجهه "أن أغنى الغنى العقل واكبر الفقر الحمق " بمعنى الجهل.

وفي اليمن (بشطريه) ظل التعليم الجامعي منذ نشأته في مطلع السبعينات وحتى وقت قريب محكوما بقبضة أمنية خانقة. فقد داومت الانظمة السياسية الجاهلة والمتعاقبة على تسخير التعليم بشكل عام والجامعي بشكل خاص لخدمة مصالحها الدنيئة ونزعاتها الاستبدادية والقمعية وأحكام قبضتها على عقل المجتمع وشئونه العامة والخاصة. إن أقبح أنواع الاستبداد - بحسب تعبير الكواكبي- استبداد الجهل على العلم.

فعندما أنشأتا جامعتي صنعاء وعدن في مطلع السبعينات كانت أجهزة الامن السياسي هي من تقرر وتحدد فتح أو إغلاق أبواب الجامعة في وجه مواطنيها الذين تخرجوا من الجامعات العربية والأجنبية ويرغبون في الانتساب إلى السلك الأكاديمي ، وداومت هذه الاجهزة على هذا النهج حتى بعد ان أصبح عدد الجامعات الحكومية ثمانية عشرة جامعة .

الشرط الرئيسي لقبول أي شخص منهم هو مقدار ولاءه للنظام بغض النظر عن مستواه المعرفي والعلمي. حتى أصبحت شهادة حسن السيرة والسلوك التي كان يصدرها جهاز الامن السياسي بحق المتقدم أقوى وارفع مكانا وأكثر نفاذا من أي شهادة علمية نالها المتقدم حتى لو كانت الشهادة هي من أرقى الجامعات في العالم. ولو كان هذا المتقدم من بين أفضل العلماء والباحثين والمبرزين علميا ومعرفيا فانه لا يحصل على هذه الشهادة ما دام عقله حرا وضميره نقيا لا يقبل الخنوع والولاء ، وما دام ينتقد أداء النظام السياسي سرا أو جهرا.

وليس هذا فحسب بل يغدو هدفا لملاحقة وفتك أجهزة الامن السياسي والقومي الضارية. فيتحقق بذلك في جامعتنا اليمنية نبؤة المتنبي (ذو العقل يشقى في النعيم بعقله وأخو الجهالة بالشقاوة ينعم). على عكس ما حدث ويحدث تماما في الدول الديمقراطية المتقدمة. وهل اعتبرنا من قول تشارل ديجول بحق مفكر فرنسا العظيم جون بول سارتر خصمه وناقده الشديد حينما نصحه مستشاروه باعتقاله فرد عليهم قائلا " هل تريدون مني أن أعتقل فرنسا؟". وجاءت الوحدة اليمنية في مايو 1990 ولفترة وجيزة لتنسف تلك القواعد المعمولة بها من قبل أجهزة الامن السياسي والقومي ، ولكنها ما لبثت أن عادت بعد حرب صيف 1994م.

لم يتوقف النظام السياسي اليمني خلال العقود الاربعة الماضية عن أفساد الحياة العلمية في اليمن وعلى رأسها الجامعات اليمنية بالحيلولة دون التحاق أفضل الكفاءات العلمية والأكاديمية اليمنية بمؤسسات التعليم الجامعي ، بل عمل على أكثر من مستوى لتدمير القيم العلمية والأكاديمية في جميع الجامعات اليمنية الحكومية. لقد ظل تعيين رؤساء الجامعات الحكومية ونوابهم ومساعديهم وعمداء الكليات يتم طبقا لمعايير الولاء الايدلوجي والسياسي للنظام ، وكان جهازا الأمن السياسي والقومي هو من يرشح هؤلاء حتى وإن لم تتوفر لديهم ابسط الشروط والمعايير العملية التي يقتضيها قانون الجامعات التي سنها النظام ذاته وفي حالات استثنائية تم تعيين أساتذة مرموقين لا لشيء إلا لأنهم يمتثلون للأوامر.

وقد شهدنا كثيرا من رؤساء الجامعات الحكومية ونوابهم الذين تم تعيينهم في تلك المناصب وهم لا يحملون الدرجة الاكاديمية المطلوبة وليس لهم إنتاج علمي ومعرفي يعتد به ، وعلى العكس كانوا يمنحون درجات الاستاذية بقرار إداري لذر الرماد على العيون. ووصل الامر حدا من السخرية والتبجح بإصدار قرار تعيين رئيس لأحدى الجامعات اليمنية عام 2010 لشخص حط رحاله في مطار صنعاء بعد تخرجه للتو من احدى الجامعات العربية.

كما أن عددا من رؤساء الأقسام وعمداء الكليات غالبا ما كان يجري تكليفهم بمهامهم وهم دون مستوى الشروط والمعايير المطلوبة ويظلون يعملون بقرار تكليف مؤقت تحت رحمة رئاسة الجامعة ليقومون بالمهمة المناطة بهم في إفساد الحياة العلمية الجامعية. أما أمناء الجامعات والطاقم الإداري والمالي فقد كان العديد منهم هو ضباط أمن عاملون يعملون في أجهزة الامن السياسي والقومي.

لا ينطبق هذا الوصف على أولئك الأساتذة والأكاديميين المحترمين الذي تمردوا بكافة السبل والأشكال على ذلك النهج الأمني المدمر ، وكذلك أمثالهم من الاداريين الشرفاء المخلصين والمحبين لوطنهم.

وأوغل النظام السياسي التسلطي في أفساد وتدمير الحياة العلمية الجامعية اليمنية بقبول أفراد في السلك الاكاديمي منحرفين أخلاقيا وسلوكيا أو متعصبين أيديولوجيا ومذهبيا ضمن صفقات سياسية وأيديولوجية وحزبية بهدف تدمير العقل العلمي اليمني في نهاية المطاف والحط من شأنه. وبلغ خزي النظام ووقاحته أوجّه بتمكين بعض من أولئك مواقع قيادية كبرى في الجامعات اليمنية بالرغم من صدور احكام قضائية بحق بعضهم أو نشر وسائل الاعلام لحالات سرقات علمية أو تزوير لأبحاث ترقوا بها في عدد من الجامعات اليمنية الحكومية. وكانت النتيجة المدمرة والبادية للعيان هي تلك المخرجات الرثة وهذا الانحطاط العلمي والمعرفي والسلوكي في مؤسساتنا العلمية كما هي عليه الآن لأن " العقل" كما يقال ينمو عن طريق ما يتغذى عليه بحسب تعبير جان جاي هولاند.

وآن الأوان لتصحيح ذلك برد الاعتبار للعقل ممثلا بمؤسسته العلمية الكبرى وهي الجامعة. وهذه هي صرخة استغاثة موجهة إلى فخامة الرئيس عبد ربه منصورهادي رئيس الجمهورية الثانية لليمن "الجديد" وإلى رئيس الوزراء الأستاذ محمد سالم باسندوة ، وإلى قيادة وزارة التعليم العالي والبحث العلمي وإلى زعماء الأحزاب السياسية وكل يمني مفكر حر.

ينبغي البدء في تطبيق المعايير العلمية والأكاديمية الصارمة التي يصرح بها قانون الجامعات واحترامها بإنفاذها مع العمل على تطويرها طبقا لأرفع وأفضل المعايير العالمية. وأهم بداية صحيحة لتصحيح هذا الوضع المتردي هو تطبيق آلية اختيار مقترحة لرئاسة الجامعة. المقترح المطروح هو أن يتقدم كل مرشح لنيل هذا المكان النبيل والرفيع عبر تنافس حر ونزيه تكون مرجعيته الشروط العلمية والأكاديمية الرفيعة والصارمة وهي المقرة قانونا بالإضافة إلي سيرته الذاتية العلمية والخالية من الآثام والعيوب الاخلاقية والسلوكية.

ويتم إختيار الافضل منهم لهذا المنصب من خلال مناظرة علمية ومعرفية علنية يوضح المرشح رؤيته و سياسته وإستراتجيته في تطوير الجامعة التي يرغب في ترأسها. لا حواجز سياسية أو مذهبية أو جغرافية أو مناطقية أو عرقية أو عصبية أيا كانت تحول بنيه وبين توليه هذا المكان الرفيع.

ولا مجال هنا لحق الانتخاب والتصويت من قبل اعضاء هيئة التدريس كما يدعو البعض لذلك ، وكيف يمكن الاطمئنان إلى نقابة هيئة التدريس وقد وقف بعض من أعضاءها بعصبية جاهلية ضد شكوى طلبة وطالبات أربعة دفعات متتالية من كلية الاداب شهر يونيو الماضي من تعسف أحد أعضاء هيئة التدريس بالكلية وظلمه وفساده العلمي والاخلاقي والسلوكي الذي لا ينكرونه.

فليست الجامعة جمعية تعاونية أو عصبوية ، من له أنصار كثر بسبب مركزه السياسي أو الأيدلوجي أو الاجتماعي فان الفوز يكون حليفة. لأن الجامعة بالذات ليست مكانا للعصبيات بكافة إشكالها ولا هي مسرحا للعلاقات العامة. فالجامعة بوصفها عقل المجتمع هي المكان الذي يندحر فيه التعصب بأشكاله ويعلو فيها العقل الحر والمبدع ، فهي بحق مكان لإمبراطورية العقل ، وعملا بقول أوليفر وند هولمز: عقل المتعصب كبؤبؤ العين ، كلما زاد الضوء المسلط عليه زاد انكماشه وقول مالكوم فوربس : الهدف من التعليم استبدال العقل الفارغ بعقل منفتح.

بيت من الشعر:
العلم يبني بيوتا لا عماد لها.. والجهل يهدم بيت العز والشرفِ

زر الذهاب إلى الأعلى