غير مجدٍ.. بل إنه مجحف.. تناول ثورة 26 سبتمبر 1962م اليمنية في يوبيلها الذهبي دون التطرق الموضوعي إلى خلفية الأوضاع أو طبيعة شخصيات الحكام الذين ثار عليهم الضباط العسكريون وخططوا للإطاحة بهم، مستعينين بالظروف والعناصر الإقليمية المؤثرة في اليمن والمنطقة ككل. وليس بشرط أساسي التناول السلبي لتلكم الشخصيات والتجاهل لجوانبهم الإيجابية. وحتى لا يتخوف بعض من يعدون ذلك استعادةً لما لا يعود، ليتأكد لهم أن لم يعد إبراز المشرق والمشرف من صور الماضي معيداً إلى واجهة الأحداث وقلب الواقع من ووري الثرى من شخوص ورموز تلك العهود، ولا هي آلة زمن تعود بوجوه الماضي إلى صنع الحاضر والتأثير في المستقبل.
لقد مضى ذلك العهد -وغيره من العهود- بكل ما فيه، إنما يستعاد ذكراه ورموزه بما ينفع للعبرة والعظة، ولئن ذُكِر -مثلاً- عن الإمام يحيى حميد الدين أنه عالمٌ مجتهد وأديبٌ ملم، فلا يتعارض وانتقاد الأحرار اليمنيين لأساليب حكمه الذي لم يعزل اليمن تماماً عن محيطه، وإنما أرجأ اقتحام ومواكبة البلد لمجالات التقدم والتطور التي خاضها غيره من البلدان.
وإذا تناول قلمٌ شجاعة وقوة وتسامح الإمام أحمد حميد الدين، فلن يختلف بأي حال من الأحوال مع استنكار بعض قراراته بإعدام نفر من الأحرار والوطنيين الثائرين، والامتعاض من عرقلته لمشاريع إصلاح سياسية كادت تخرج البلد من الجمود. ومع احترام الفدائية والتضحيات المبذولة من شباب ثورة 26 سبتمبر للإطاحة بآخر أئمة اليمن محمد البدر، فلن يقلل منها الإقرار بنوايا البدر الإصلاحية والتي جسدتها قراراته السياسية خلال أسبوع حكمه الأول والوحيد 19-26 سبتمبر 1962م.
لقد أعلنت الجمهورية منذاك حتى اليوم، وبقيت واتسعت بتوحد شطريها وتوارت الملكية أو الإمامة، كما توارى الانفصال والشطرية بعدهما.. وإن برزت دعوات العودة إليها.. وهو بالطبع ما يستحيل حدوثه.. بعد خمسين سنة من الجمهورية بما فيها من تشوهات هي الأخرى عنوانها المتكرر لدى كل فصل من الفصول: الانقسام في ذات الصف.
وبقاء الجمهورية ليس يضيرها وقادتها –لا سيما اليوم- تصويب بعض خطاهم بالنقد والتذكير لئلا تتكرر الخطايا.. لأن المطلوب تكرار المزايا!
... ولا غضاضة –في هذا السياق- من الإنصاف بتصحيح ما ساد مواد تاريخ الجمهورية مما شاع بأن أول رئيس للجمهورية هو المشير عبدالله السلال، بينما كان الشيخ محمد علي عثمان هو أول رئيس لمجلس السيادة أو مجلس رئاسة الجمهورية. منذ 27 سبتمبر 1962م. بينما تولى المشير السلال رئاسة الجمهورية ابتداءً منذ آخر شهر أكتوبر 1962م.
وشقاً لسبيل الإنصاف نقول: لقد اختلطت الأمور إلى الحد الذي تصور الناس فيه أو صُوِّر لهم أن لا إمكانية للفصل بين العاطفة -الغاضبة تجاه عهد ما- والعقل -المنصف لما حدث في نفس ذلك العهد-. فتغلبت الانطباعات الذاتية على التقديرات الموضوعية. فيما ينبغي الموازنة والفصل بينهما ليشق سبيل الإنصاف.
فمهما ظلم العهد الإمامي أو جار الغاصب الاستعماري أو بطش الحاكم التشطيري، فطالما رسخت الجمهورية -وإن هددتها تحديات العصر- فلتكن الجمهورية بأدواتها كافة عادلة في حكمها على تلك العهود التي تعد جزءا أصيلاً من تاريخ البلد لا يجوز التعدي عليه بالتجاهل.وبدون تجاهل لحقائق التاريخ، ليغتنم العقل فرصة اليوبيل الذهبي في إحقاق الحق لأهله، والإنصاف لجميع رموز التاريخ اليمني ولو بالكلمة، والتجاوز ما استطاع التجاوز عن خطايا اقترفتها تقديرات أخطأ واضعيها من المتصارعين في الداخل والخارج ظناً منهم –وبعضه إثم- الفائدة والنفع والصون والحماية والمصلحة وإذا بما يتحقق هو عكس المصلحة.
المصلحة اليوم في التصالح مع الذات والتجاوز عن أسوأ ما فات والاعتبار والإنصاف. لكي يكون اليوبيل الذهبي لثورة سبتمبر، يوبيل جمهورية الإنصاف.