فرطت اللجنة الفنية التي كلفت بمهام التحضير لانعقاد مؤتمر الحوار الوطني بالوقت ، إما لانعدام الكفاءة في بعض أعضائها ، أو لغياب الانسجام وعدم العمل كفريق واحد ، أو لأن الرؤية الذاتية لبعض أعضائها هيمنت كطابع لنشاط اللجنة وهي رؤية تفتقر للإحساس بجسامة المهمة الوطنية ، وفقيرة الخبرة بالواقع وتناقضاته والوسائل الملائمة لمقاربته واستيعاب قضاياه.
ومع نهاية فترة عمل اللجنة وبدء إعداد تقريرها المفترض أن تقدمه للرئيس نهاية سبتمبر الفائت ، يبدو أن اللجنة ستجد نفسها مضطرة للحشو والتلفيق ، ذلك أنها لم تفعل شيئاً فارقاً في المهام التي نص عليها قرار إنشائها ، أو ربما أنها أنجزت أعمالها بشكل سري ولم تطلع الرأي العام على نتائجها أولاً بأول التزاماً بالشفافية التي نص عليها قرار تشكيل اللجنة .
تعاملت اللجنة الفنية مع الحوار الوطني وقضاياه من منظار منظمة مدنية متخصصة ، لا من زاوية لجنة مناط بها القيام بمهمة وطنية لانجاز إجماع وطني يعبر عن إرادة اليمنيين ، يكون داعماً لمؤتمر الحوار ، مهام كان من أولوياتها أن تجتذب القوى والتيارات والأطراف المعنية في الساحة كلها ، وتبلور الرؤى المتعددة حول شكل الدولة ومضامين الدستور الجديد ومداخل الحلول والمعالجات للقضايا الرئيسية التي سيناقشها مؤتمر الحوار الوطني .
نصّبت اللجنة نفسها بديلاً للقوى المجتمعية والشعبية والسياسية والنقابية والأطراف الأساسية ، وبدلاً من خوض حوارات مكثفة لاستيعاب اكبر قدر ممكن من وجهات النظر وجذب القوى والأطراف المعنية للمشاركة في الفعالية الوطنية ، بدلاً من ذلك هربت اللجنة إلى تدبيج الشروط والمناكفة والهروب أحياناً إلى قضايا زواج الصغيرات .
وهي قضية ذات طابع قانوني متغير وليست قضية وطنية تطرح ضمن جدول أعمال الحوار الوطني ونذهب بها إلى الاستفتاء بعد استيعابها ضمن الدستور . لأن العقد الاجتماعي يحدد شكل الدولة ونظامها ويضمن الحقوق والحريات بصيغ ذات طابع عام ويترك التفاصيل لتصاغ في المنظومة القانونية.
لقد كان تشكيل اللجنة واضحاً من البداية أن المقصود به استهلاك الوقت ، وهو توجه وافقت عليه أطراف عديدة ، وكل طرف يضمر من ذلك شيئاً ما .
وفي السياق ذاته يبدو أداء جمال بن عمر مع هذا الإفراغ للحوار الوطني من مضمونه ، وهذا التضليل المتعمد والاستنزاف للشعب اليمني .
يتواجد جمال بن عمر ليملأ فراغاً في اليمن ، لا لأن دوره يتطلب ذلك ولكن لأن الأطراف المعنية لا تقوم بمهامها ، أما دوره الحقيقي فهو هناك في مجلس الأمن ، أن يرفع بشكل واضح أسماء المعرقلين للانتقال السلمي للسلطة وهم معروفون ومحددون وعلى رأسهم الرئيس السابق وأتباعه .
نص قرار تشكيل «الفنية» على تشجيع المنظمات والتكوينات والنقابات على عقد مؤتمرات فرعية وعامة لتحدد مواقفها من قضايا الحوار الوطني .
وحتى الآن لم تفعل« الفنية » شيئاً يذكر لتحفيز قوى المجتمع اليمني المدني والقبلي والمناطق والنقابات على بلورة رؤاها من قضايا الحوار الوطني ، وأكثر من ذلك استخدمت «الفنية» أسلوب التعتيم على أدائها وتداولاتها ، وقد أخبرني أحد أعضاء اللجنة أن بعض أعضائها اقترح فرض رقابة على الصحافة ووسائل الإعلام المختلفة .
المؤتمر الوحيد الذي عقد هو تحالف منظمات المجتمع المدني . ومع ذلك لم نقرأ موقفاً واضحاً لهذا التشبيك التحالفي من قضايا الحوار الوطني ، وما خرج به هو موقف عمومي يدعم الحوار الوطني ، وكأننا في مهرجان تشجيعي للحوار .
الأهم من ذلك أن القطاعات الحيوية الفاعلة في المجتمع تقف موقف المتفرج حتى الآن . فإضافة لقوى الحراك المتشرذم والذي لم تستطع قواه المتباينة التوصل إلى صيغة لموقف مشترك ، نلاحظ غياباً تاماً لنقابات المعلمين والمحامين والقضاة والمهندسين والأطباء والأحزاب والتكوينات القبلية والمناطق ، غياب عن بلورة رؤى لشكل الدولة اليمنية الجديدة والدستور وموقف واضح من أبرز قضايا الحوار وفي طليعتها القضية الجنوبية .
كل هؤلاء يستعاض عنهم بمسمى ممثلين في «الفنية» لمنظمات مجتمع مدني صورية ولا تمثل إلا القائمين عليها ، وقد عرفت بأنها منظمات ندواتية فندقية يقتصر نشاطها في أوساط نخب محدودة .
ستكون العواقب مضاعفة فيما لو تم تكريس معايير تشكيل «الفنية» في قوام أعضاء مؤتمر الحوار الوطني .
فقد فاقت المنظمات الصورية الهامشية في قوام «الفنية» الحركات الشبابية وساحات الثورة التي تعبر عن نبض الشارع اليمني وتمثل الانتفاضة الثورية التي جسدها ملايين اليمنيين وآلاف الشهداء والجرحى .
وغيبت ساحات اليمن ومناطقه وقواه الفاعلة ، تحت وقع المعايير الخارجية لهوس منظمات المجتمع المدني الصورية الشكلية ، والجندرة ، مع أن المرأة موجودة في كل القطاعات الفاعلة ، من ساحات الثورة ، والحراك الجنوبي ، والأحزاب ، والنقابات ، والمنظمات ، وكان يفترض أن تأخذ هذه القطاعات بمعيار إشراك المرأة ضمن تمثيلاتها ووفق تصوراتها ، لا أن يفرد تمثيل خاص للمرأة ، وتعبر عنه آراء خاصة محدودة ، لا هي عبرت فعلاً عن هموم المرأة اليمنية وتطلعاتها ، ولا عكست جميع الآراء للمرأة اليمنية .
ربما تكون خيبة الأمل كبيرة ب «الفنية» وقوامها ، ولكن خيبة الأمل الكبرى ستهيمن على الرأي العام ، فيما لو تمت الموافقة على مقترحات تكرس قوام الفنية في مؤتمر الحوار الوطني .
وضمن صلاحيات الرئيس ، أن يأخذ بعين الاعتبار تمثيل كل القوى وتجسيد المصلحة العامة في دعوة مؤتمر الحوار الوطني للانعقاد ، وقد تضمن قرار تشكيل اللجنة النص على دور الرئيس ومرجعيته كمرجح للقرار في حال الاختلاف والتباين ، ولعل الرئيس يدرك أن تكرار الخطأ في تشكيل مؤتمر الحوار سيكون له آثار أوسع بكثير من خيبة تشكيل «الفنية» !!