[esi views ttl="1"]
آراءأرشيف الرأيالفكر والرأي

هل تسعى إيران لاحتلال جنوب اليمن؟

يبدو العنوان لكثير ممن يجهلون تفاصيل الشأن اليمني الغائب عن المشهد السياسي ضربا من المبالغة أو التهويل، لكنه ليس كذلك إذا أخذنا في الاعتبار أن هذا لسان حال بعض الجنوبيين الذين لا يرون في الحضور الإيراني المتصاعد في الجنوب إلا مساهمة في تحريره من ربقة الشمال وليس اختراقا لسيادة اليمن أو احتلاله سياسيا!

إذن هل ستحتل إيران جنوب اليمن أم ستحرره؟ هذا يعتمد على طريقة فهمنا للتحرير والاحتلال حيث يمكن إحلال معنى بدل آخر إذا ما علمنا أن «الاحتلال» قد انتهى إلى أشكال وأنماط أخرى كاختراق السيادة وخلق «دولة» داخل الدولة، كما هو الحال في لبنان سابقا، أو من خلال التحالف التبعي القائم على سيادة مذهبية كما هو الحاصل في العراق، وفي شكل ثالث يأتي الاحتلال عبر أشكال اقتصادية يمتزج فيها الطائفي بالتنموي كما في حالات كثيرة في أفريقيا نجحت إيران في خلق مساحات جديدة أو على الأقل تحييد دول كثيرة تجاه مشروعها السياسي الذي انتقل من حالة «تصدير الثورة» إلى بناء تحالفات وثيقة متدرجة وعميقة.

بالطبع تسيّد الحالة «الحالة السورية» وهيمنتها بسبب «الميديا» التي باتت تتعامل مع المتغيرات السياسية على طريقة البورصة خلق نوعا من الإهمال في التغطية والنقاش لمناطق أخرى ليس لديها أرقام ضحايا تكفي لتتصدر المشهد الإعلامي والسياسي، لكن ذلك لا يعني بقاء الأوضاع على الأرض على ما كانت عليه لا سيما في حالة الفرز التي تشهده المنطقة بسبب ارتدادات المتغيرات السياسية.

قبل يومين كشفت مصادر أمنية يمنية لوسائل إعلام أجنبية أن إيران كانت تسعى لاستغلال الأراضي اليمنية ك«محطة» لتصنيع صواريخ وأسلحة متنوعة، بحسب تحقيقات مع مجموعة من عناصر ست «شبكات تجسسية»، تعمل لحساب الجمهورية الإسلامية، ألقت السلطات اليمنية القبض عليهم مؤخرا، ويستند التقرير الصحافي الذي أعدته CNN إلى تصريح مصادر أمنية تحدثت عن العثور على معدات يمكن إعادة تجميعها لصناعة صواريخ وأسلحة متنوعة، ضمن أدوات لمصنع، تم التصريح بإقامته من قبل السلطات اليمنية، في وقت سابق ما بعد الثورة بهدف الاستثمار.

هذه التصريحات سبقتها تحذيرات كثيرة من الرئيس اليمني بضرورة وقف التدخل الإيراني في اليمن من خلال تجنيد شبكات تجسسية في سبيل إجهاض التسوية السياسية (المبادرة الخليجية) والتي بدأت إيران حملات واسعة عبر وكلائها الجدد، وهم في الغالب معارضون للنظام السابق وجنوبيون وبعض المجموعات الصغيرة من الناشطين والصحافيين، بالتشكيك فيها وكأنها مؤامرة خليجية أميركية.

اللافت في الأمر أن هذه المجموعات الجديدة لا تنتمي للتشيع بمفهومه الديني بصلة؛ فهي ليست ذات خلفية زيدية وإن كنت أعتقد أن التطابق بين الزيدية والإثني عشرية طارئ وسياسي أكثر من كونه مذهبيا، حيث حدثت تحولات عميقة في «المذهب الزيدي» منذ ازدهار الحالة السلفية في اليمن وتلك قصّة أخرى؛ إلا أن التشيع اليوم هو سياسي محض ومن أشخاص سياسيين يمارسون البراغماتية السياسية على طريقة من يدفع أكثر، وكجزء من الانقلاب على مفهوم «الوحدة» الذي يعيش أكثر أوقاته ضعفا وهشاشة لأسباب موضوعية تتصل بحقبة الرئيس السابق وأيضا لطريقة تعامل اللقاء المشترك والقيادات القبلية في الشمال مع موضوع الجنوب كتركة وإرث سياسي لا يمكن التنازل عنه أو النقاش حوله.

ما قبل 2004 كان الزائر لليمن بمحافظاته ومدنه لا يلحظ أي فوارق مذهبية بين مكوّنات الشعب اليمن الغنية والثريّة، بالكاد يمكن لباحث متخصص في الإسلاميات أن يلحظ الفوارق بين الشافعية والزيدية والسلفية عبر المواضيع المطروقة أو بعض التفاصيل الفقهية التي ما كانت تشكل «هوية» فارقة كما هو الحال ما بعد ذلك، لكن آثار الحروب المتكررة مع الحوثيين أعادت إنتاج هويّات دينية صغيرة متصارعة، وبالتالي ولد التحالف على أساس «المظلومية» بين إيران والحوثيين ليصل لاحقا إلى الاستتباع والتحالف السياسي الذي يصل للذوبان.

الحضور الإيراني في اليمن كان متدرجا وبطيئا لكنه أخذ يؤتي أكله وثماره بسبب سياسة الاحتواء الناعم حيث الدعم اللامحدود للحوثيين، وإقامة مصالح تجارية مع أطراف في الحكومة وبعض القبائل المحتاجة إلى المال، ومن هنا كان هناك ما يشبه التعتيم الإعلامي عن حقيقة التمدد الإيراني وتقديمه على أنه جزء من الاستثمار إلى أن جاءت لحظة الحقيقة وتصادم النظام السابق مع الحوثيين وانفجر شلال الأسئلة حول طبيعة العلاقة.

لاحقا خلال الحرب السادسة (ست حروب كفيلة بتجذير الهويّة الحوثية وطمس الزيدية المعتدلة) خرج الدعم الإيراني من قمقمه في صعدة لينتقل إلى جبل مران ثم يتوسع الأمر عبر تحالفات مع فرقاء سياسيين كانوا يريدون إسقاط رأس صالح ولو بالتحالف مع الشيطان.

التوسع الحوثي قابله توسع إيراني امتد للجنوب عبر مد اليد إلى قيادات سياسية غائبة عن المشهد السياسي وبقايا الحقبة الشيوعية لبعثها من جديد عبر «المظلومية» التي تنتج هويّات جديدة، وهو الأمر الآن الذي يتداوله الجنوبيون دون تمحيص ولسان حالهم أن الانفكاك عن إرث الشمال لا يمكن إلا عبر القفز على المبادرة الخليجية التي حرصت على يمن موحّد متساوي الحقوق لكن تطبيق ذلك لا يضمن إلا عودة الأمر السابق في حال استمرار حالة الاحتراب السياسي بين الأقوياء في صنعاء القبيلة وبقايا صالح واللقاء المشترك.

هناك أدوار أفريقية أيضا ساهمت في فرش السجادة الحمراء لإيران خاصة بعد سيطرة الحوثيين على ميناء ميدي. الكثير من التقارير تتحدث عن تسهيلات تقدم من دول أفريقيا على رأسها إريتريا للسفن الإيرانية ليتم التوسع لاحقا من قبل الحوثيين في ظل انهيار الحالة السياسية في صنعاء إلى منطقة حجّة، بالطبع توسّع كهذا ما كان ليسمح به صالح وأنصاره لولا أنهم يريدون كشف هشاشة الثورة على أمل أن يحضروا مجددا كبديل للفزّاعة الإيرانية لكن بعد فوات الأوان.

والحال أن هناك حديثا أكثر تشاؤما عن إمكانية انقلاب بعض الشخصيات السياسية ذات العيار الثقيل على مشروع الثورة عبر التحالف مع الحوثيين وإيران بهدف إحراج المبادرة الخليجية والمجتمع الدولي.

بعيدا عن التجاذب السياسي هناك عمل اجتماعي وثقافي على الأرض لا يقل فاعلية، وهو أمر لا ترصده عادة التقارير الصحافية المشدودة للمتغيرات السياسية. هناك ابتعاث على أشده لإكمال الدراسات الدينية وبعض التخصصات الأخرى في إيران وهو يحظى بدخول مجموعات «سنية» من الشباب ممن يرون في ذلك فرصة للخروج من مأزق «الحال الواقف» في اليمن.

في الأيام القليلة الماضية انتشر شعار «الموت لأميركا وإسرائيل» على جدران صنعاء وبات يتكاثر بطريقة أقرب إلى ملصقات الدعايات الانتخابية، لكن أميركا غائبة عن الحالة اليمنية في منطقها الشامل لتهتم بإعادة تسليح الجيش والتدريب على ملاحقة «القاعدة» في الجنوب، هذه الصراع الثنائي والمباشر من شأنه أن يقوي «مظلومية» الجنوبيين الذين يشددون على أن «القاعدة» حالة طارئة ونابتة وهي وإن كانت ليست كذلك إلا أن التركيز عليها وإهمال إقامة علاقات قوية مع كل أطياف المعادلة السياسية في اليمن من شأنه أن يحوّل المتضررين من إهمال المجتمع الدولي إلى وقود سياسي لحرب أهلية طائفية بدأت بوادرها منذ حالة التصعيد خلال الأيام الماضية بين حركة الإصلاح وتيار «أنصار الله» الذي يمثل الحوثيين والذي يرفض حتى الآن متكئا على قوته واستقلاله في مناطقه إلى أن يتحول إلى حزب سياسي ولاعب فاعل في المشهد السياسي الجديد.

خلاصة القول.. من يتابع التطور التصاعدي للحالة الإيرانية في اليمن عبر وكلائها بالمطابقة (الحوثيين) أو عملائها بالمصلحة وهم بعض القادة السياسيين في الجنوب والشمال يدرك أن خسارة اليمن بتركيبته الحالية ووحدته السابقة واستقراره المأمول ضرب من الأحلام الوردية والتفاؤل الساذج، والقول إن هذا التشظي السياسي في اليمن هو ضريبة «الحرية» والتعددية السياسية التي هي من تباشير «زمن الثورات» هو مثل تبرير يوسف الفيشي (أبو مالك) عضو المكتب السياسي لـ«أنصار الله» الذي قال عن انتشار اللافتات المعادية لأميركا في قلب صنعاء بعد أن كانت محصورة في صعدة ومناطق الحوثيين إنها تأتي «في إطار حرية التعبير» وهو إذ قال إنه يفخر بتجربة حزب الله في لبنان نبّه في إشارة رمزية إلى أن عدم «تهديد إسرائيل» - مبرر وجود حزب الله - لا ينفي أن أميركا موجودة! آه لكي لا أنسى في النهاية أكد الشيخ أبو مالك على «ضرورة الحوار»!

زر الذهاب إلى الأعلى