في مراحل كثيرة من مراحل التاريخ، يبرز رجال أفذاذ، يكون لهم أثر بالغ على حياة شعوبهم، ويكون ذلك الأثر ممتدا إلى قادم أيامهم، وأيام أبنائهم وحفدتهم من بعدهم، ومثل أولئك الرجال: الشهيد إبراهيم محمد الحمدي، الذي كان عمره الرئاسي كعمر الورود؛ فالورود تغادرنا سريعا بعد أن تكون قد قضت عمرها القصير بيننا في سبيل إسعادنا والإضفاء على أيامنا بأجمل منظر، وأزكى رائحة، إلا أن هذا الرجل- رغم قِصَر عمره الذي قضاه في الحكم- لم يزل ذكره عاطرا، ومآثره خالدة، مثلما أن نهايته كانت موجعه للقلوب وآسرة لكل لحظة تذكر.
لقد كان إبراهيم محمد الحمدي خير معبر عن طموحات اليمنيين وتطلعاتهم، وخير مدرك لأدوائهم التي كانت -وما تزال- تفتُّ في أجسادهم، ولذلك؛ فقد خبِر مواطن تلك الأدواء وعلم أسبابها؛ فانطلق يجتثها من براثنها، في سبيل أن ينعم أبناء اليمن بوطن يسوده العدل والحرية والمساواة، وأن تضع اليمن قدميها على عتبات القوة والندية واستقلال القرار، في وسط جغرافي ينظر إليها بعيني جمل.
مع مرور ثلاثة عقود ونيّف؛ ما زلنا نجتر الذكرى الأليمة، ذكرى اغتيال الرئيس الشهيد، وننوح على أطلاها بحرقة شديدة إلى الحد الذي نكاد أن نتساوى فيها مع أولئك القوم الذين يهتفون -مع ذهولنا منهم- في ذكرى أوجاعهم: وا حسيناه!! وا شهيداه !! وا ثاراه!! فنجلد قلوبنا كما يجلدون أبدانهم، ونلعن خصوم شهيدنا مثلما يلعن أولئك من يحسبونهم خصوم وقتلة الحسين بن علي رضي الله عنهما!!
فهل نحن اليمنيين-وليس أولئك القوم- والسؤال هنا يأتي في سياق إيقاظ الوعي السادر- بحاجة إلى ذلك الاجترار؟ ثم ما الذي جعل هذه الحادثة يُمْعن في استنباش دفائنها دون سواها من الأحداث الدموية التي تخللها اليمن الجمهوري في النصف قرن من هذه الألفية والألفية التي سبقتها؟ وإني لأحسب ذلك- وأنا من شديدي الإعجاب والتألم لفقيد الأمة- كقميص عثمان رضي الله عنه؛ يراد منه الدخول بالبلاد في ملهاة لا نهاية لها ولا فائدة، وهي في مرحلة حرجة تتطلب نسيان الماضي، والتطلع نحو غد خال من الكراهية والأحقاد الموجهة والمؤدلجة.
إن كثيرا من أولئك المتباكين على الشهيد الراحل؛ يذكروننا بالمثل الشعبي القائل: "يقتل القتيل ويمشي في جنازته"!! وللاندهاش والتدبر، معا، يسأل الكثير: لماذا لم يجرِ إثارة هذه القضية في فترات سابقة، وقد كان جميع فريق ذلك العمل الوضيع في متناول كل باحث عن الحقيقة التي غيبت واحدا من رواد البناء والتحديث والتقدم في اليمن؟!