بالأمس، مرّ بي شخص لا أعرفه، وفي يده إضبارة من قصاصات ورقية مزخرفة الحواشي، كتب عليها ما يعرف عند أتباع الحوثية ب"الصرخة"، وهو شعار استعدائي ملون منطوق، يعرف حقيقته ومقاصده كل عاقل أريب. وقد تضمنت كل تلك القصاصات الورقية بعض الأدعية والمأثورات التي وظفت -بخبث- على غير ما جاء بها أصاحبها الكرام؛ فتيقنت حينها أن هؤلاء "يستحوِثون" قلوب وعقول البسطاء في طريق "تحويث" اليمن، والاستحواذ عليها بكل وسائل المنافسة والصراع الفكري والمادي!!
لم أمانع-أبدا- في أخذ تلك القصاصات حين تفضل بإعطاني إياها مبتسما ذلك الرجل، كما أنني لم أُلقِ بها أرضا كما صنع البعض ممن شاهدتهم حينئذ؛ وذلك لتضمنها لفظ الجلالة، بل احتفظت بها، ولم أدرِ أنها ستكون بعد ساعات قليلة مثار نقاش ساخن، وجدل كبير بين مجموعة من زملائي الذين جمعني بهم هذا العيد، حين شاهدوها لديّ لحظة إخراجها من جيب قميصي مع بعض أشيائي الخاصة.
دار الجدل على حِدّةٍ وصخب لم أكن أتوقعه، واستشعرت بالقلق معه، حين بدا لي أن البلد يقف على مشارف أزمة كبيرة مرتقبة ومتعددة الاتجاهات، وأنها أزمة ليست بأقل من تلك الحروب الست التي دارت بين هؤلاء الحوثيين ونظام الرئيس السابق، علي عبدالله صالح، هذا الجدل، جعلني أتوقع- وفق معطياته ونماذج شخوصه- أن أخطر ما في هذه الأزمة، أن ساحاتها ومفرداتها وأطرافها لن تكون في منطقة صعدة فحسب، بل في كل أنحاء اليمن، والأخطر من ذلك، أنه سيأتي ذلك في ظل ظرف سياسي ملتهب، وتدفق مالي خارجي معلوم ومتعدد، وارتخاء وخور في أجهزة الحكومة التي لم تتعافَ بعد من عللها وأدوائها التي أعجزتها.
إن بقاء حال اليمن على حالها الذي كشفت غطاءه ثورة شباب فبراير 2011م؛ سيجعل من عام 2014م عاما أكثر صخبا وأكثر تأثيرا من العام الذي ولدت فيه ثورة الشباب اليمني، بل ربما تنحسر أحلامهم بمقدمِه، عندما تتعاظم أنانية الأطراف السياسية في المنافسة على كل أشكال الكسب السياسي، سواء في معركة الاستفتاء على الدستور الجديد، أو في معركة التسابق على كراسي مجلس النواب، في ظل الغياب الملموس -حقيقيا لا دعائيا- لأي شكل سياسي يمثل هؤلاء الشباب.
يمثل الحوثيون اليوم، أقوى قلق لدى النظام القائم ومكوناته السياسية، وهو -مع ذلك- يتعامل معهم بكل حكمة وصبر، مثله في ذلك كمثل من يتعامل مع قنبلة موقوتة يتحكم بها شخص متهور ومغيب العقل؛ لأنهم اليوم، يتمددون على بساط نقدي (مالي) غزير، ترفدهم به إحدى أغنى دول المنطقة؛ وعلى احتياج شعبي لأبسط متطلبات الحياة التي عجزت الحكومة القائمة عند تلبيتها لهم؛ هذا فضلا عن أن الحوثيين -كتنظيم، وأتباع، وأنصار- يتمتعون بأراضٍ يسيطرون عليها، ويجري ممارسة حكمهم لها على نحو شبه مستقل، ما يعطيهم ميزة فريدة عن الحركات الأخرى التي تختلف أو تقاوم الحكومة المركزية الحالية أو القادمة.
كانت انتخابات عام 2006م مثار اندهاش وجدل لكل متابع، حين كادت تعصف بكرسي الرئيس السابق، على غير ما كان يتوقعه، رغم ما أبداه حزبه القوي من حشد متعدد ومتنوع، بل كانت تلك الانتخابات غنية بكل العبر والدروس التي يجب أن تقف عندها الأحزاب المتنافسة اليوم وفي الغد المنظور، وأن تستعد كثيرا لمثل هذا الموقف، بحشد كل الطاقات، في سبيل الوقوف على الهموم الحقيقية للمواطن البسيط، الذي يقع دائما صيدا سهلا لمن يعطي أكثر وأغرى، مع تعزز قناعته بالتدني الكبير في أداء الحكومة والأحزاب الممثلة فيها، مقارنة بواقع الحياة (الرغدة والهنيئة) لسكان صعدة، على حد زعم إعلام حاكميها.
إن قضية الحوثية -بالنسبة لي كمثقف- ليست مسألة عداء، بقدر ما هي مسألة "فكر وعبرة" يفقهها الكثير من النخب، فالأولى: أن فكرة الحكم، تقوم على استلاب الروح الحرة وترويضها في تقديس الأشخاص، وإعمال الحديد والنار بموجب ذلك في حكم أناس جُرمهم أنهم يٌجلّون أناسا يعتقد هؤلاء الحوثيون ومراجعهم، أنهم ظلموهم ومغطوهم حقوقهم قرونا، والدليل على ذلك، أنهم ما زالوا يرمونهم بالباطل قذفا وتشنيعا، ما أصبحوا وما أمسوا، وإن كان من بين أولئك، رجال ونساء صلوا خلف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتخضبت سيوفهم بدماء أعدائه، وهنا-أيضا- تتجلى العبرة ويستبان الدرس.
* باحث في شئون النزاعات المسلحة