للمرة الألف أخبره ان ما حدث له علاقة بالتخلف السياسي وليس محض مؤامرة سعودية.
هو ليس مثقفا يساريا رغم محاولاته مؤخرا ان يغدو كذلك لدرجة ان اتصل بي البارحة قائلا :كيف انضم للحزب الاشتراكي؟
كان خاله اشتراكيا من ضاحية اب ولطالما لقنه درسا تاريخيا يختزل كل عجزنا في مؤامرة سعودية امبريالية. وهو قد بقي منذ وفاة خاله كمدا في العام اربعه وتسعين بسبب ما اعتبره هزيمة شخصية له امام شيخ القرية.
بقي يقاوم رغبته في الانضمام للحزب الاشتراكي بسبب من عدم رغبته في الفقر الاشتراكي الذي لازم خاله حتى مات غير ان الفتى بحاجة للتفسير المؤامراتي الذي يتمتع به اليسار ويمنحه الغطاء النظري لكراهية السعودية والانتقام منها ردا على تبول جندي سعودي على رأسه وهو يحاول مع رفاقه التسلل عبر حدود المملكة.. لقد غسل رأسه من البول السعودي في احد مستنقعات الحدود وعاد لا يطالب احدا برد كرامته الوطنية ولم يصادف من يدفعه لمطلب كهذا.
كان بحاجة لحدث يمنحه شيئا من الكرامة الوطنية وانا لم ألفت عنايته مؤخرا لمشاهد تلفزيونية يقوم فيها مسؤولون ثوريون من بلاده بتقبيل أكتاف من تبولوا على رأسه. انخرط في الثورة وهتف للجميع ، الشباب والاصلاح والدكتور ياسين وهتف لي ايضا (كان يظنني بطلا) لينتهي مؤخرا للريبة بنا جميعا ولا يكف يتبرم من مقالاتي الأخيرة مفصحا انه لم يعد يفهم موقفي وان ما اقوم به "تخذيل.
لقد خذلناه حقا ، جميعنا قمنا بذلك متعاونين على تشتيت فؤاد جيل بأسره.. وما أنا الا كاتب يا محمد ولا أحد يمكنك الملاذ به. ليس بسبب موت "أبو الثورة" ولكن هي هكذا تدافعت رموزها وتقاذفت خارج مسار الحلم.
هو بالطبع لم يفهم العبارات الأخيرة متسائلا: ليش ما تفضحش السعودية؟ وكان سؤاله هذا هو جهده الواهن الأخير في النيل ممن أذلوه.
لقد رضخ في النهاية ورضي بالفقر الاشتراكي مقابل حصوله على يقين المؤامرة وكأنه يقدم لنا تفسيرا واقعيا لنشوء نظرية المؤامرة في التاريخ باعتبارها الملاذ الأخير لكل الحالمين المغدورين.
أخجل احيانا من العتاب الصامت لشباب كثيرين يقرأون لي مؤخرا جملة اعتداءات على يقينياتهم وثقتهم باسماء سياسية بحثوا في معطف كل منها عن أب . اصلاحيون انقياء ومتحمسون بلا تأطير حزبي وباعة متجولون كان لديهم ذلك الأمل اليقيني الناجز على عاتق الحدث الذي هو ثورة شاركوا فيها وجعلوها تنجح في طرد السيئين ووضع الاخيار مكانهم.
ذلك حقهم والمعضلة اليمنية عصية على التفسير واخبرهم في كل مصادفة ان المبادرة الخليجية سيئة لكننا ضحية تخلفنا السياسي ولو لم تكن السعودية موجودة لقامت دولة أخرى بتفخيخ احلامنا ولو بصورة مختلفة ومستوى اقل سوءا بقليل. وفي النهاية تبقى المسألة اكثر تعقيدا حتى من اصرار بعضنا على اختزال خذلاننا في مجموعة اسماء وكيانات.
لا نظرية المؤامرة كافية الآن ولا ملاحقة الرئيس وتسميته مخلوعا ستكفي لمنح هذا الجيل ولو القليل من الضوء حتى لا يتشظى.
يحتاج محمد لتفسير معقول لما يحدث وربما وظيفة و أداء سياسيا رسميا يقنعه ان الامور اقل سوءا. ولا ضير في منحه بعد ذلك استمارة انتساب للحزب.