مطلع العام الماضي تناولت (الوطن) بعضاً من شوارد الدور الإيراني في اليمن وانعكاساته السلبية على استقرار دول الجزيرة والخليج، وكان من بين دواعي الاستغراب اهتمام المنظمات الخارجية بمجريات الوضع في هذا البلد المترع بالمشكلات، وحرص التكتلات الدولية الكبرى على إقامة علاقات رسمية يؤطرها تمثيل دبلوماسي مباشر، بينما لا يكون ذلك محل اهتمام الأمانة العامة لمجلس التعاون الخليجي ولو من قبيل: الأقربون أولى بالمعروف..".
وبمرور بضعة أشهر على إثارة هذا التساؤل النقدي اتخذت المنظومة الخليجية لمجلس التعاون قرارها المناسب بافتتاح مكتب دائم في العاصمة صنعاء، موفدة إحدى الكفاءات المقتدرة لملء فراغ لم يكن في رأي كثيرين مبررا، سيما وأن المخاطر المحدقة بدول الجزيرة والخليج ما برحت تتفاقم يوماً إثر آخر، ما حدا بالرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي للتحذير العلني من عواقب الصمت على المهددات الأمنية لطرق الملاحة الدولية والمضائق الاستراتيجية الواقعة على البحرين الأحمر والعربي، وصولاً نحو مضيق هرمز.. ولم يكن هادي مبالغاً في وصف حجم تلك المهددات ووضعها في سياق مختلف تفوق تحدياته خطر وجود السلاح النووي في متناول طرف أو أطراف غير مأمونة الجانب!
وبقدر ما حمل القرار الخليجي باعتماد التمثيل الرسمي المباشر لهيئاته في اليمن من مؤشرات إيجابية تنم عن منعطف جديد في علاقات دول الإقليم؛ بقدر مظاهر الحفاوة الرسمية والشعبية اليمنية احتفاءً بدخول القرار الخليجي حيز التنفيذ.
على أن المراكب الجماعية حين تحرك عجلاتها لا تفعل ذلك دون معرفة المتشاركين في الجلوس على مقاعدها، وجهة السير، وبرنامج الرحلة، ومحطات التوقف الجزئي.. وعادة ما يكون هذا الأمر ضرورة يحتاجها آخرون يعنيهم الخروج لاستقبال أصدقائهم وذويهم في هذه المحطة أو تلك.
ولنقل على محمل الجد والثقة إن جسم القطار صلب وعرباته الرئيسة مترابطة بإحكام شديد، وتقف خلف مقوده إرادة محترفة لديها من الوقود ما يفيض عن الحاجة، فهل يمنع ذلك من تفقد أحزمة الأمان للجالسين على المقاعد الخلفية؟
إننا لا ننظر إلى المخاطر المحيطة بشعوب ودول الجزيرة والخليج كما لو أنها البوابة الوحيدة للحديث عن موجبات التعاضد والتكامل بين حكوماتها، ولكنا بصدد البحث عن آفاق مستقبلية تحكمها أسس راسخة من الثقة المتبادلة والمصالح المشتركة والتوجهات التربوية والثقافية والعلمية الكفيلة بكسر الحواجز، واجتثاث رواسب الماضي بكل ما حفلت به من ذكريات قاتمة، وما علق بها من جراح غائرة، استطاع القادة مغالبتها ووضعوا الضمادات العاطفية عليها ولم يثبت بعد خلوها من بويضات جرثومية!
ومما لا شك فيه أن نجاحات كبيرة تحققت على صعيد التدابير الأمنية اليمنية الخليجية لمواجهة المخاطر أو بالأحرى للحد من العمليات الإرهابية والتخفيف من التعبئة المذهبية المتطرفة.. بيد أن هذه الجهود على أهميتها لم تتحرك بعد لتجفيف منابع التطرف، ولم تبحث في الجذور الثقافية والعمق الاقتصادي لتلك المخاطر، ما يدعو لبناء استراتيجية إقليمية تتعاطى مع المعضلات وفق تصور علمي غير مبتسر ولا انتقائي.
وفي مناسبات عديدة لم يستطع المنطق الأرستقراطي المتعالي تقديم رؤية تستشرف مستجدات الأوضاع وطبيعة التقلبات العاصفة في منطقة الجزيرة والخليج، ولم يكن هذا المنطق ليرى إلى الجالسين على المقاعد الخلفية ولا إلى العربة المتدحرجة خلف قطار الوفرة سوى عبء يتعين الفكاك عنه، وهو منطق يتقاطع مع وقائع التأريخ ومروياته، فالتحديات الخارجية لا تميز بين العربة الأولى أو الأخيرة إلا بمدى قدرة السياسات المعادية على تحويل إحداهما إلى وسيلة والأخرى هدفاً.
ترى هل يكون الحضور الخليجي لمكتب الأمانة العامة لمجلس التعاون بالعاصمة صنعاء حاملا غير اعتيادي للنهوض بمهام وتحديات مرحلة استثنائية عجزت عنها الأطر الدبلوماسية؟
لا نود الإفراط في التفاؤل ولكننا نتطلع إلى حاضر العلاقات بين دول الجزيرة والخليج كمنصة افتراضية لإطلاق الرؤية الاستراتيجية الجامعة، والتوثب صوب مستقبل لائق بمنطقة حيوية تضم بين جوانحها ألق الرسالة السماوية وعبق الحضارات الإنسانية. وأستكمل في تناولات قادمة.