[esi views ttl="1"]
آراءأرشيف الرأيالفكر والرأي

عفاريت عيدروس النقيب

(1)
أَدِين بأسف للدكتور/ عيدروس النقيب – عضو المكتب السياسي للحزب الاشتراكي اليمني ورئيس كتلته البرلمانية- لأنني أجبرته على قراءة مقالات لي؛ ومنها مقالي (التنازلات من أجل الوحدة.. أوهام الوقت الضائع) كاملة؛ رغم طولها الذي يسبب له الملل عادة وفق قوله..

لكن كما هو واضح من رده فقد قاوم الملل وانتصر عليه، وكتب مقاله الأطول: ناصر يحيى وعفريت الحزب الاشتراكي اليمني (عدد كلمات مقالي: 1947.. وعدد كلمات مقاله: 2362 بزيادة: 415 كلمة) مما يؤكد أنه وجد في مقالي – رغم الملل- ما يجعله يكمل قراءته حتى النهاية؛ ويتعب نفسه في إعداد رد أطول؛ الأمر الذي يدل على أن طول المقالات ليس عيبا دائما، وليس أمرا مقصودا لغرض شرير، بل المضمون هو الذي يفرض المساحة كما حدث مع (عيدروس) نفسه الذي أجبره المضمون على تطويل مقاله دون خشية ملل أو نعاس أو اتهام بالتشويش على مؤتمر الحوار.. وكما قيل في الأمثال (من عاير أخاه برضع لبن كلبة لا يموت حتى يرضع منها).

كذلك ندين للنقيب بالشكر لأنه هيأ الفرصة لنقاش على الطاولة حول القضية الجنوبية، والوحدة والانفصال.. وأسباب كل ذلك، ودور الأحزاب اليمنية في إيصال البلاد والعباد إلى هذه الحالة التي صارت فيها (الوحدة) ملطشة والانفصال مشروع وسام قد يوضع على الصدور يوما ما.. وصحيح أن الوحدة كانت قبل تحقيقها ضحية مزايدات ومؤامرات، لكنها الآن تخضع لقوانين اقتصاد السوق وتجار السوق، وقوانين الربح والخسارة، حتى صار من غير المستهجن أن نسمع بعض من قيادات حركات القومية العربية والأمة الواحدة ذات الرسالة الخالدة يبدون انزعاجهم كلما سمعوا من يدافع عن الوحدة ويبرئها من آثام السياسيين وأخطائهم؛ في الوقت الذي لا يجدون غضاضة من إبداء تعاطفهم وتفهمهم لدعوات الانفصال وتفتيت الأوطان لأن نظاما فاسدا صرف أراضي ومنازل وممتلكات الدولة لهذا المتنفذ أو ذلك الحزبي لشراء ذمته أو كف شره!

(2)
بداية؛ نبشر د. عيدروس أننا لم نشعر بالملل رغم طول مقاله وسوء الأفكار التي يطرحها، ورغم أنه لا جديد فيه غالبا؛ باستثناء اتهاماته البوليسية لي بأنني أكتب لإرضاء الزعيم الرمز (يقصد علي عبدالله صالح وليس عادل إمام)، وتنفيذا لتوجيهات قيادات إصلاحية.. وأخيرا للتعكير على أجواء السير نحو الحوار الوطني؛ وكأنني علي صالح أو عبدالملك الحوثي أو علي سالم البيض ودعاة فك الارتباط والانفصال العاجل والآجل المتضررون من عقد مؤتمر الحوار الوطني؛ لأن نجاحه يعني نهاية مشاريع التوريث والانفصال والإمامة.

وإضافة إلى ما سبق؛ ففي المقال أفكار أخرى تبدو جديدة في الخطاب السياسي والإعلامي الداعي للانفصال أو المؤيد له والمتعاطف معه والمتفهم له الذي يعد د. النقيب من أبرز المنتمين إليه.. فعلى سبيل فتح الشهية لمتابعة النقاش؛ أقر عيدروس أن الصراخ الطويل عن التنازلات عن علم الشطر الجنوبي، والهوية الدولية، والعاصمة، والدينار مجرد تفاصيل ولا تمثل لب المشكلة، وهدف إثارتها (من قبل الرافضين لها وليس من قبل المروجين لها) هو التشويش على المشكلة الرئيسية وهي سياسات السلب والنهب والإقصاء، والاستبعاد.. وهذا قطعا تراجع إيجابي مهم؛ فالخطاب الانفصالي منذ تدهورت العلاقة بين الشريكين عام 1992 بنى حيثياته على مثل هذه القشور لتزييف وعي العامة وتحلية مشروع الانفصال، أما السلب والنهب والإقصاء والاستبعاد فالأصل أنها لم تبدأ وفق كلامهم إلا بعد الحرب 1994.. وها هو الله ينطق النقيب بأن الذي كان يستخدم وقودا لإثارة الإحن والأحقاد والكراهية بين اليمنيين هو مجرد تفاصيل!

(3)
وقبل أن ندخل في الردود والتوضيحات التفصيلية على ما جاء في مقال (عيدروس)؛ فإنني أثبت هذا الأسبوع بعض ما أجد لزاما أن يتفهمه الدكتور النقيب؛ وأمثاله في الحراك والحزب الاشتراكي اليمني، ومن اقتنع وينافح عن الأطروحات المعروفة لتبرير الدعوة إلى الانفصال وفك الارتباط أو الفيدرالية ثنائية الشطرين:
أولا: إن مما صار شائعا في بلادنا أنه ليست هناك مقدسات سياسية – أو بقر مقدسة بالتعبير الهندي- على حد ما قاله د. عيدروس نفسه في إحدى لقاءات اللجنة التحضيرية للحوار الوطني أنه لم يعد لديه ثوابت إلا الله فقط.. وهو قطعا كان يقصد بذلك أن الوحدة وكل الثوابت الوطنية لم تعد مقدسة، ويجوز رفضها أو التحفظ عليها واعتناق ما يناقضها.. لكن (النقيب) وأمثاله الذين ينزعون القداسة عن الوحدة وغيرها باستثناء الله (وإن كنت لا أدري هل يدخل ضمن ذلك الإسلام كدين ومبادئه وأحكامه القطعية في التشريع والأخلاق) يسارعون لصنع مقدسات جديدة؛ منها على سبيل المثال: ضرورة إدانة وتجريم حرب 1994 بكل ما يعني ذلك من استخفاف بعقول الناس، وإجبارهم على قبول موقف مفجري الأزمة الشهيرة المتآمرين مع جهات خارجية لفرض الانفصال عامي 1993-1994.. وإلا فهم عملاء للزعيم السابق، ويقدسون ثقافة الحروب والدماء. ومن هذه المقدسات الجديدة: القضية الجنوبية ذاتها؛ فلاشك أن الذين قرأوا مقاله ومقالات وأطروحات أمثاله، قد لاحظوا أنهم جعلوا من (القضية الجنوبية) مقدسا جديدا وهم بالطبع سدنتها.. والذي لا يعترف بها أو بقدسيتها على معاييرهم فهو حاقد على الجنوب والجنوبيين ونهاب ومستفيد من نهب الجنوب، وفي العادة أن كل مقدس يتحول مع الزمن هو والسدنة الذين حوله إلى وضع انتهازي يعبر عنه اليمنيون بالقول (البقبقة للولي والفائدة للقيوم)!

ولكي نكون واضحين.. فإن مصطلح (القضية الجنوبية) ذاته لم يعد يحمل معنى واحدا، فقد ظهرت جهات جنوبية متعددة بأجندات مختلفة بل متعادية، ومتغايرة في تشخيصها للقضية الجنوبية: أصل نشأتها، وزمان بدايتها، والجهات المتسببة فيها ومظاهر البلاء فيها.. فإذا كان (عيدروس) يقصد بالقضية الجنوبية فقط هو ما حدث من آثار ونتائج لوحدة 1990 والحرب الأهلية 1994 يجدونها سلبية وكارثية... إلخ فإنني كاتب هذه السطور – ومعي عديد من الجنوبيين- أرفض رفضا قاطعا الإقرار بانطباق مصطلح (القضية الجنوبية) على هذا المقصود، ونفضل تسميتها (القضية الحزبية الاشتراكية) لأنها مرتبطة وجودا ومصالح وخسائر وأرباحا بالمجموعة الحزبية والعسكرية التي تشاركت مع الرئيس السابق/ علي صالح في تأميم الوحدة وتفصيل النظام السياسي الناشىء بعدها على مقاساتهم ومصالحهم الحزبية والشخصية.. وأما إذا كان معنى (القضية الجنوبية) هو كل ما حدث من نتائج سلبية كارثية وإقصاءات وفصل للموظفين وتشريد للمواطنين ونهب لممتلكاتهم وفرض نظام يساري قمعي عليهم في المحافظات الجنوبية والشرقية بعد سيطرة اليسار الماركسي على السلطة في 1969 وحتى 1994.. إذا كان هذا هو المقصود بالقضية الجنوبية فنحن مع هذا المفهوم.. ومع إعادة الاعتبار لكل جنوبي وجنوبية تضرروا من سياسات الحكام الذين هيمنوا على الجنوب سواء أكانوا جنوبيين أو شماليين، يمينيين حفنة أو يساريين انتهازيين أو زمرة أو طغمة أو اشتراكيين أو مؤتمريين أو إصلاحيين أو أي صنف من أصناف الإنس والجن! ولكيلا يقال لنا إن الذين تسببوا بالإضرار بالجنوب والجنوبيين قبل الوحدة قد اعتذروا فإن المعول هنا هو في إعلان ذلك بوضوح بوثيقة رسمية، وتقديم رد حقوق المتضررين منهم كاملة قبل رد حقوق المتضررين من رجال النظام السابق في الجنوب قبل الوحدة، وبالطريقة نفسها التي يقولون الآن إنهم يريدون بها تقديم الاعتذار للجنوب وصعدة.

ثانيا: إننا عندما نتحدث عن سياسات ومواقف الحزب الاشتراكي اليمني في إطار الحديث عن الوحدة والانفصال وحرب 1994 نقصد بالتحديد: الحزب الاشتراكي وقياداته وسياساته في تلك المرحلة، ولا ينسحب كلامنا على الحزب الاشتراكي وقياداته وسياساته في الوقت الراهن إلا ما كان مشارا إليه بوضوح زماني.. وبناء عليه فإننا نؤمن بلا مواربة أن الحزب الاشتراكي وقياداته وسياساته في الماضي يتحملون نصيبا كاملا وجزءا مشتركا من المسؤولية عما آلت إليها الأوضاع في الجنوب خاصة واليمن عامة قبل الوحدة والفترة الانتقالية حتى 1994.

فأما مسؤوليتهم الكاملة فهي بخصوص سياساتهم المدمرة للجنوب والجنوبيين التي انتهجوها طوال حكمهم قبل الوحدة، وعانى منها الجنوبيون شتى أصناف القهر، والإقصاء، والتهميش، ومصادرة الممتلكات والحقوق، وتشريد مئات الآلاف من المواطنين الجنوبيين في شتى بلاد العالم الذين لا يعلم عددهم ولا ما آلت إليه أوضاعهم هم وأبناؤهم إلا الله وحده. والمتضررون الجنوبيون من كل ذلك لا يكفيهم ولا تقنعهم مهرجانات وجلسات ومقايل التصالح والتسامح التي جرت أساسا بين الفصائل المتناحرة داخل الحزب الحاكم في الجنوب. وكما سلف فكما يريد الحراكيون الحزبيون إعادة الاعتبار لهم، واسترداد حقوقهم ووظائفهم... إلخ من نظام صالح فالجنوبيون الآخرون يريدون أيضا استرداد حقوقهم ووظائفهم والاعتذار العلني الحاسم عن كل ما لحق بهم من 1967 وحتى 1994، وجعل استرداد حقوقهم مقدما على غيرهم ممن تضرروا بعدهم!

أما المسؤولية المشتركة للحزب؛ فهي مشاركته مع الرئيس السابق في الاستيلاء على مشروع الوحدة، وتأسيس نظام سياسي؛ ظاهره الديمقراطية وباطنه شمولية جديدة؛ أدار البلاد وفق مصالح الطرفين وليس وفق مصالح الشعب والوطن، وأورثت اليمنيين مآسي ومشاكل ما زالوا يعانون منها حتى الآن (وأسوأها: هذه البلطجة السياسية التي تستهدف الوحدة وتعمل على إسقاطها).. وهو ما يمكن أن نصفه بأنه مؤامرة انقلبت فيما بعد على أصحابها، ودفعوا ثمن مؤامرتهم تباعا؛ طرف في 1994 والطرف الآخر في الثورة الشعبية.

(4)
ثالثا: إن انتقاد أي ممارسات وسياسات لها علاقة سابقة بالحزب الاشتراكي يجب ألا تجعل بعض أعضائه؛ وخاصة القيادات الأولى فيه كالنقيب؛ يفقدون أعصابهم إلى حد ممارسة أساليب الماضي في اتهام الآخر بالعمالة؛ فهذه الأساليب لا تخيف أحدا؛ فضلا عن أنها تصلح فقط في شبكة الإنترنت حيث يستطيع أي إنسان أن يسب ويفتري ما شاء متسترا بأسماء وهمية.. أما أن تكال الاتهامات بالعمالة هكذا فأنت الخاسر يا عيدروس.. ومن كذب جرب!

ولعلم النقيب فإن كاتب هذه السطور قال رأيه في ماضي الحزب الاشتراكي علانية داخل مقره المركزي في صنعاء، في ندوة مستقبل اليسار وبحضور عدد من القيادات التاريخية للحزب.. منهم الأساتذة: أنيس حسن يحيى، ويحيى الشامي، وعبدالباري طاهر، ومعهم مجموعة كبيرة من الحضور. ويومها قلت: إنني خصم لتاريخ الحزب الاشتراكي في الجنوب وسياساته القديمة، لكنني اليوم عضو في حزب متحالف معه وفق أسس واضحة، ونحن أوفياء لهذا التحالف ولن نغدر ولن نطعن في الظهر.. لكن ذلك لا يعني أنه عندما تثار قضايا الخلافات القديمة وملابساتها من قبل الاشتراكيين أنفسهم الذين يصورون أنفسهم كالملائكة خلال 1990- 1994، وأنهم لم يخطئوا إلا في الهرولة إلى الوحدة؛ أن نسكت عما نراه خطأ أو تزويرات واتهامات لخصومهم وخاصة الإسلاميين بدون حساب ولا تدقيق بل تصل إلى حد الافتراء والتلفيق! فكما أنكم ترون أن من حقكم أن تقولوا ما تشاءون ضدنا فمن حقنا أن نبسط رأينا وندافع عن خياراتنا طالما نجدها صحيحة.

(5)
نختم هذا الجزء من سلسلة مقالات (عفاريت عيدروس النقيب) بمداعبة أخوية؛ ففي مقاله المذكور صحح عبارة لنا قائلا: [وعن المكانة الدولية لشريكي الوحدة المغدور بها يقول ناصر يحيى (والهوية الدولية للدولتين السابقتين زالتا (يقصد زالت)..] ونحن نشكر عيدروس على هذا التصحيح وإن كنا استخدمنا ألف الاثنين باعتبار أن الكلام يعود على اسم مثنى.. لكننا نبقى ممتنين له، ولذلك قررنا رد الجميل له بتنبيهه إلى أن مقاله يحتوي على جملة من الأخطاء النحوية والأسلوبية التي وقع فيها؛ لكن نركز فقط على فقرة قالها في معرض انتقاده لما يعده خطأ منا في الاستشهاد بأقوال آخرين إذ قال: (لم يشر الكاتب ولو من باب المهنية واحترام من يقتبسهم إلى مصدر الاقتباس، ولا أعتقد أنه فعل ذلك جهلا منه بمبادئ وأخلاقيات العمل الصحفي ولكن تعمدا لتتويه الكتاب والهروب من عرض السياق الكامل للنص المقتبس..). سوف نناقش اتهام عدم الأمانة في الاقتباس الأسبوع القادم بإذن الله.. ونكتفي اليوم بلفت نظر الدكتور عيدروس إلى الكلمتين المميزتين في العبارة؛ فهو كان يقصد بالتتويه (القراء) وليس (الكتاب).. أما الكلمة الأخرى فهي المسلية.. فهو كان يريد أن يقول: (واحترام من يقتبس منهم) فسبقت البلاغة القلم فجاءت هكذا (واحترام من يقتبسهم).. على لغة (قبسوني البراغيث) وهي لغة عربية قديمة كانت تسمى (لغة: أكلوني البراغيث).

زر الذهاب إلى الأعلى