اليمن في سباق مع الزمن.. يتهادى على مفترق طرق كما لو أنه في حالة ثمل يتقدم خطوة ويتعثر في الأخرى، ويصبح من المبالغة بمكان القول إن رجلاً وإن أجمع على قيادة الداخل والخارج يمكنه القيام بكل شيء مقابل ما تضخه القوى السياسية أمامه من اشتراطات ومطالب ترتدي برد التغيير.. تغيير ما لا يحلو لها هي لا ما ينبغي عليها القيام به لحظة وضعها ضمن مفردات التحول التاريخي أو مطالبتها الرضوخ لمقتضيات التغيير وآلياته المختلفة.
على أن هذا النمط من تعقيدات الواقع يهون بل لا يكاد يذكر مقارنة باتجاهات عمل رأس النظام السابق وأدواته الأسرية الطيعة وآلياته العسكرية والأمنية التي رسخت عقيدة الولاء للقائد الرمز في قناعتها لمراحل عجاف وسنوات زهو وقتذاك أدت لتجذير ثقافة الاستحواذ لديها، واختزال الوطن والشعب والثوابت العقدية وتوظيف أهداف ومبادئ الثورة اليمنية 26 سبتمبر و14 أكتوبر ضمن مدخلات الولاء السياسي لمركز التحكم والإلهام! كما التحقت بهؤلاء وأولئك طبقة جديدة من الانتفاعيين الذين رأوا في ضعف الرئيس السابق غداة أجبرته الأحداث على مغادرة كرسي السلطة مناسبة للتقرب منه واحتلاب الجيوب الخلفية لحقائبه الممتلئة بمليارات الدولارات.
والحق أن التسوية السياسية، وفرت مساحة واسعة لصالح القوى المتضررة من ثورة التغيير وأفضت بمشاعر الكراهية لاختراع "دينامات" عمل تعطل قرارات وتوجهات الرئيس الجديد المكبل بالأعباء والمقيد بسقف زمني قدرته التسوية بصورة عفوية تخلو من التبصر والواقعية.
تتضافر عوامل الإعاقة ويرتفع منسوب التحديات المصيرية المنتصبة أمام خط السير الذي رسمته المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية. يبدو التفاؤل قراراً وطنيا وإقليميا ودولياً.. وسواء كان تضافر الإعاقات عملاً مخططا له على كثرة من يستبعد ذلك أم جاءت أسبابه محض امتحان ساقته المصادفات، فإن الرهان يتوقف على ما تحمله الإرادة السياسية اليمنية من جسارة في اتخاذ القرارات الشجاعة لمواجهة الانقسام الأمني والعسكري، بما يوازي الحاجة إلى استمرار القناعة العربية والدولية بنفس إصرارها السابق على دعم مسار التسوية الخليجية، مع ملاحظة يتعين وضعها في الاعتبار حول المحاذير المحتملة جراء إفراط الأشقاء والأصدقاء في تدليل بؤر الإعاقة، لدرجة أننا لم نسمع خلال الفترة الماضية عن مشروع قرار إقليمي أو دولي واضح ومحدد بشأن الجهات والقيادات الضالعة بأنشطة تخريبية ترمي إلى التأثير على جهود الرئيس عبد ربه منصور هادي، وتتعارض مع مقاصد التسوية وموجهاتها الاستراتيجية المكرسة لخدمة الاستقرار والتنمية وبناء الدولة اليمنية الحديثة.
واتساقا مع طبيعة الأشياء، فإن المراحل الانتقالية في مختلف التجارب البشرية يصاحبها مخاض صعب، وعادة ما تشق طريقها نحو تطبيع الأوضاع وسط حقول ملغومة ومفاجآت غير متوقعة، وكذلك هو حال العربية السعيدة حيث ازدهرت سوق الأوهام السياسية بصورة لا مثيل لها من قبل.
وبداهة فما من سلطة على الأرض بمقدورها استصدار قوانين تمنع عشاق الأضواء وهواة ألعاب السيرك من اعتمار الوهم واليقين به.. بيد أن الأوهام في اليمن أشبه حالاً بالأمراض المعدية، وهنا يكون تدخل السلطات ضرورة تمليها واجبات الدفاع عن وحدة المجتمعات وحماية مصالح الشعوب.
لدينا في اليمن – وقل إن شئت هكذا نعتقد – ما يكفي لأخذ العبرة من رأس النظام السابق؛ إذ فشلت سياساته في الجمع بين التوريث والجمهورية وهو يومئذ على سدة السلطة، ولدينا أيضاً ما يؤكد سقوط المقررات الماضوية عن الاستخلاف السلالي!! أما وعرى الوهم تذهب بكليهما لإذكاء الفتن واتخاذها وسيلة لنفاذ عقد التأريخ وهذيان الاستبداد، فإن معضلة من طراز آخر تدعو دول الإقليم والمجتمع الدولي برمته للمبادرة في تقديم المصل المناسب دفاعا عن الحرية بصفتها قيمة مشتركة، لا لمجرد التعاطف مع اليمن فحسب.
صحيح أن اليمنيين يتحملون مسؤولية رأب الصدع وبناء الدولة اليمنية الضامنة التزاماتها، وهو ما يحاول الرئيس هادي إنجازه بدعم ومساندة الأشقاء قادة مجلس التعاون، ويوافقهم عليه أصدقاء الجانبين في أنحاء العالم، ولكن الأصح أيضاً أن الوصول إلى تلك الدولة الحلم سيظل متعثراً طالما واصلت جيوب التخلف إنتاج إعاقاتها، مستقوية على اليمن الجديد بما تحصل عليه من تدفقات خارجية!!
إن الطريق السالكة إلى دولة يمنية ضامنة تبدأ بإزالة الفساد السياسي والقيمي، وتلك مهمة يتوقف إنجازها على تفهم الخارج قبل الداخل!!
وقطعاً لن يكون في هذا البلد دولة ضامنة إذا لم ينطلق مشروعها من نقطة التمكين الفعلي وتقويض مراكز القوى وتقليم الأظافر الحادة المغروزة في قلب وجسد وذاكرة اليمن!