[esi views ttl="1"]
أرشيف الرأي

فرسان النور وفرسان الظلام..

لم يكن موقف الحوثيين من الثورة في سوريا صادماً لي، فهم لم يكونوا في يوم من الأيام في صف الإنسان، لمجرد إنسانيته، وليس في أدبياتهم ما يدعو للحياة والتنمية. ولم يثوروا على نظام صالح؛ لأنه دمر اليمن وحطم اليمنيين، فساداً وتجويعاً.

فقد كان شعارهم الواضح هو الموت لأمريكا وإسرائيل، والولاء لإيران، ولحلم الدولة الإمامية. وليس لليمنيين المنهكين جوعاً وفساداً نصيب في هذا كله، سوى الموت لبعضهم في صعدة وحجة وغيرها من الأماكن. ولهذا كان من السهل عليهم أن يضعوا أيديهم في يد النظام الذي قاتلهم بالأمس، والتحالف مع النظام الأسدي الذي زود نظام صالح بالطيارين لقتل إخوانهم في الثورة على نظام صالح. مادام هذا التحالف سيوجه ضد خصمهم المذهبي العريق (أهل السنة).

وكذلك لم أستغرب موقفهم العدائي المتطرف تجاه الإخوان المسلمين، مع أن هؤلاء الأخيرين لم يناصبوهم العداء المسلح ابتداء، ورفضوا الحرب التي شنها عليهم صالح في صعدة، وكان فصيلهم المصري هو أول من حارب في فلسطين، ومازال فصيلهم الفلسطيني (حماس) هو الذي يحارب فيها حتى اليوم. لم أستغرب موقفهم غير المبدئي هذا؛ لعلمي أن الحوثيين لا يكرهون إلا من يهدد مشروعهم الأيديولوجي الموصل للسلطة. وهو للأسف مشروع بدائي ساذج، لا يليق بإنسان عادي أن ينتصر له فما بالك بمثقف. لا يليق بإنسان أن يروج لخرافة السلالة الذهبية المقدسة. ولا يليق به أن يعطل التنمية الوطنية، ويمزق النسيج الاجتماعي، في سبيل مومياء مذهبية خرجت من متحف الأفكار التاريخية.

قلت إنني لم أستغرب موقف الحوثيين غير المبدئي من ذلك كله، فقد كان مشروعهم واضحاً منذ البداية. لكني صدمت بموقف بعض شرائح اليسار المثقف، وبعض من يرفعون شعار الدولة المدنية، ويعلنون طوال الوقت سخطهم على الفكر الديني المتخلف.
كيف انخرط هؤلاء في هذه الزفة العنصرية الرجعية، ضاربين عرض الحائط بكل ثقافة اليسار التقدمي أو اليمين الديمقراطي. وعجبت كيف استطاع هؤلاء فجأة أن يتحولوا من النظرية الأممية إلى النظرية الإمامية، ومن الحديث عن حقوق الهامشيين إلى الحديث عن حقوق الهاشميين. وما الذي تبقى لديهم من معاني التقدمية والدولة المدنية، وهم يناصرون الرجعية الدينية في اليمن والاستبداد السياسي في سوريا وليبيا؟!.

لقد أصبح الخوف من التيار الديني (الإخوان المسلمين تحديداً) عند بعضهم مبالغاً فيه إلى حد القرف. بحيث أصبح بعض السياسيين والمثقفين مستعداً للتحالف مع الشيطان نفسه إذا كان سيناصب الإخوان العداء. مع أن مشروع الإخوان النظري وسلوكهم العملي يدلان على أنهم أكثر انفتاحاً وتسامحاً مع الآخر المخالف داخل دائرة الوطنية. وهذا لا يعني أنهم بريئون من ثقافة «من لم يكن معنا فهو ضدنا»، فهذه إحدى عيوبهم الجسيمة حتى الآن. إلا أن هذه العيوب تهون أمام عيوب التلون المبدئي والفجور في الخصام السياسي، إلى حد نسيان كل فضيلة لدى الخصم. ولقد أثبتت الأجيال الحديثة من الإخوان المسلمين أنها أكثر تسامحاً تجاه الخصم الأيديولوجي من خصومها، وأكثر تقبلاً لمفاهيم المدنية وحقوق الإنسان من بعض أصحاب شعار الحداثة والدولة المدنية، وأكثر نضجاً من الأجيال القديمة في التيار الديني على وجه العموم.

هذا ليس حديث المدافع عن فصيل سياسي أو مذهبي بعينه، فصاحب هذا المقال أبعد ما يكون عن ذلك. وهو واحد من الذين أوقفوا جهودهم طوال السنين الماضية لنقد التيار الديني ومفاهيمه الرديئة، وفي مقدمة ذلك جماعة الإخوان المسلمين نفسها. ولقي بسبب ذلك ما لقي ولايزال يلقى. ولكنه دفاع عن الحقيقة التي كادت حوافر العصبية أن تطأها. ودفاع عن القيم الإنسانية السامية، التي تكاد تلفظ أنفاسها تحت سياط التعصب المذهبي والسياسي. والدفاع عن الحقيقة أو عن القيم السامية هو - في جوهره - دفاع عن الإنسان. ومازلت أستعير عبارة فولتير الخالدة: لقد أوقفت جهدي المتواضع لأجعل من الإنسان أكثر شرفاً وأقل سخافة.

إن خلق الاعتدال الذي درجنا عليه تجاه المذاهب والأفكار المخالفة لا يعني أبداً التسامح مع الظواهر والقيم التي تهدد العدالة الاجتماعية بالتصفية، وتهدد النسيج الاجتماعي بالتفسخ. وليس من اللائق بنا أن نستبدل تطرفاً مذهبياً سائداً بتطرف مذهبي صاعد، ولا أن نحارب نظاماً فاسداً مستبداً هنا وندعم نظاماً وحشياً هناك. وإن من يفعل ذلك فإنما يكشف لنا من الآن عن معدنه الحقيقي، وعن ثقافته اللاإنسانية الكامنة.

وإن للمثقف شرفاً ينبغي أن لا يقل عن شرف الفارس، لأنه – كما أسماه باولو كويلو – هو فارس النور، أو هكذا ينبغي أن يكون. وللفارس نظام أخلاقي محكم يمنعه من الوقوع في التناقض المبدئي والازدواج الأخلاقي؛ لأنه حين يفعل ذلك فإنما يدل الناس على أنه لا يناضل في سبيل قيمة إنسانية سامية، وإنما يسعى لتحصيل منفعة ذاتية ضيقة، وإذا كان بإمكاننا أن نتسامح في معركة المذاهب والأفكار، فإن من المعيب أن نتسامح في معركة القيم العليا؛ لأنها معركة الوجود نفسه.

زر الذهاب إلى الأعلى