عجيب جداً ما يحدث في اليمن.. ما أكثر القتل وما أقل الحقيقة، ما أكثر المتهمين وما أقل الاثبات، ما أكثر التحقيقات وما أقل النتيجة.
لم تعد مفردة "القاعدة" إجابة شافية ولا مقنعة لكل عملية اغتيال أو تفجير تتم في اليمن.. ثمة لغز يقف بيننا والحقيقة.. ومعلوم أن خروج الحقيقة هي بداية النهاية لمسلسل العنف الغامض في اليمن.
عجيب ما يحدث في اليمن.. يتعرض قادة النظام في 3 يونيو 2011 لأقوى وأكبر عملية اغتيال سياسي على مستوى العالم في العقود الأخيرة ثم تمر سنة ونصف إلى اليوم دون أن تظهر أدنى بوادر تشير بأصابع الاتهام مجرد إشارة، إلى حقيقة الجهة الواقفة وراء ذلك التفجير الرهيب.. علماً أنه لو كان لدى الرئيس السابق صالح أدنى دليل على تورط علي اطراف بعينها في حادثة التفجير لسهل عليه حشد الداخل والخارج ضدها، ولكان ذلك التورط إن ثبت، سبباً في دخول البلاد دوامة من العنف.. ولكن يبدو أن الفاعل هو جهة عل قدر من القوة بحيث ليس بمقدور الضحية حشد أحد ضدها..
وعجيب ما يحدث في بلاد اليمن.. 72 عملية اغتيال ناجحة لضباط من جهاز الأمن السياسي منذ بداية 2012.. وأكثر من هذا العدد في العامين 2010، 2011.. دون أن تتسرب الحقيقة ولو لمرة واحدة عن طبيعة الجهة التي استهدفت هؤلاء أو جزءاً منهم أو حتى حالة واحدة..
وعجيب أيضاً أن تموت القضايا بعد اغتيال المحققين كما حدث في حادثتي تفجير السبعين الذي راح ضحيته ما يزيد عن 70 جندياً من جنود الأمن المركزي 21مايو2012 ، وحادث اقتحام سفارة أمريكا في صنعاء 13سبتمبر2012، وكلا الحادثين تم اغتيال الضابط المسؤول عن التحقيقات ومعه تم اغتيال الحقيقة، في ظل تواطؤ سياسي وإعلامي على عدم نبش الأسئلة وإثارة المشاكل حول مصير هذه القضايا.
سفن الأسلحة، خلايا التجسس، سقوط الطائرات بخلل فني، انفجار مخازن الأسلحة في المعسكرات، تفجير أنابيب النقط والغاز.. كلها مألوفات يومية في مسامع اليمنيين وألسن المذيعين دون أن يتوقف شيء من ذلك أو يُعرف من هو الغريم.
(2)
يفترض أثناء التحقيقات والتحريات طرح جميع الاحتمالات وتقليب جميع الافتراضات لكن كل حوادث الإرهاب في اليمن كان يُستثنى منها احتمال تورط الجانب الأمريكي بشكل كلي، رغم أن بعض المؤشرات تقول بضرورة جعله ضمن فرضيات الاتهام.. أمريكا هي الطرف الوحيد الذي لا يحقق أحد في فرضية تورطه، بينما هي الطرف الوحيد الذي يحقق في فرضية تورط جميع الاطراف. وما إن يشترك الأمريكيون بقريق من المحققين في أية عملية إرهابية حتى تدخل القضية في غيابة الجب وتغدو الحقيقة شيئاً عزيز المنال. ولربما تكشف الضرورة عن الفاعل المباشر دون ان تكشف عن الجهة الواقفة وراءه.
لا جهة قوية يمكن أن تقف وراء حادث النهدين ويُخشى من كشفها سوى الولايات المتحدة .. ولا ننسى أن السكرتير الصحفي للرئيس السابق أحمد الصوفي صرح بضلوع أمريكا في الحادث فور وقوعه ولكن سرعان ما حذف تصريحه من المواقع المؤتمرية التي قامت بنشره. وبالطبع ضاعت معالم الحقيقة حين أرسل الأمريكيون فريقاً للتحقيق.
ولا يوجد جهة قوية يُخشى من كشفها ولديها حنق على جهاز الأمن السياسي سوى الولايات المتحدة التي أنشأت جهازاً استخباراتياً تابعاً لها في اليمن بعد رفض الأمن السياسي إمدادها بكافة سجلاته ووثائقه وكذا بعد أن عجز فرعا مكتب التحقيقات الفيدرالي FBI ووكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية CIA في صنعاء وعدن عن جمع المعلومات ميدانياً.. وجاء مبرر إنشائها للأمن القومي بحجة أن السياسي مخترق من قبل الجهاديين وعندما تسألهم عن الجهة التي يفترض وقوفها وراء اغتيال المئات من ضباط الأمن السياسي سيقولون القاعدة.. وهو أمر لا يستقيم مع طرحهم السابق اذ كيف يمكن ان تغتال القاعدة نفسها؟!
ولمزيد من المعلومات حول دور أمريكا في تأسيس وادارة جهاز الامن القومي ومدى حنقها عل جهاز الأمن السياسي يمكن الرجوع لمقال كتبه حسين اللسواس في صحيفة "الناس" وموقع "الاشتراكي نت" في يناير 2009 وكذا تقرير لمجلة الخارجية الأمريكية "فورين بوليسي" في نوفمبر 2012.
حتى تفجير قاعة زهرة المدائن الذي استهدف احتفالاً للحوثيين وراح ضحيته 3 يمنيين 24 نوفمبر الحالي، هو أيضاً يحمل بصمات أمريكا التي يحدث في ظل رعايتها الأمنية مجازر طائفية يومية في العراق منذ 2003 وحتى يوم الناس هذا. في هوس أمريكي عجيب على إشعال الصراع الطائفي في المنطقة الذي آتى أكله في العراق وأفغانستان ويُراد نقله حرفياُ إلى اليمن.. لذا فاللعبة القذرة ليست جديدة على هؤلاء الرامين لتغيير الديمغرافيا السياسية للمنطقة، ذلك التغيير القسري الذي يتطلب نجاحه تغيير الديمغرافيا الاجتماعية لا يتم إلا عبر الإبادات.. ولعل في مئات الآلاف من الوثائق التي نشرها موقع ويكيليكس مئات آلاف من الشواهد على وجاهة هذه الأطروحة.
ربما نصل إلى فك شفرة مسلسل العنف الغامض في اليمن إذا تم طرح فرضية التورط الأمريكي بشكل معلن ومعزز بضغوط شعبية وأسئلة حقوقية ومرافعات مدنية من شأنها أن تقف في وجه الإرهاب الأمريكي الذي يمارس العبث الدموي ويحتكر ميدان التحري والتحقيق، خصوصاً وأن مقومات هذه الفرضية صارت في بعض الأحيان ترقى إلى درجة اليقين.
الأمريكيون وفق ما يطرحونه في وسائل الإعلام، ويعززهم في ذلك شعارات القاعدة والحوثيين، هم أكبر طرف مستهدف في اليمن، ورغم ذلك هم الطرف الذي يتحرك بكل حرية وأمان ويقوم عبر عناصره المدربة وأذرعه المزروعة في تنظيم القاعدة بمضايقة أي طرف آخر يحاول أن يكون له حضور أمني أو سياسي أو اقتصادي في اليمن سواء كان هذا الطرف عربياً أو غربياً أو شرقياً.
ورغم تجديد تأكيدنا على أن ما يتم طرحه في هذا المقال مجرد فرضيات إلا أنه ثمة حوادث يوجه ضحاياها أصبع الاتهام لأمريكا مباشرة، كما في حادث اغتيال اللواء العراقي خالد الهاشمي بصنعاء في 16 اكتوبر الفائت الذي لا يرى رفاق له غريماً غير أمريكا التي قتلت المئات من زملائه في العراق.
ومنذ العام 2007 لازلت أبحث في جدلية العلاقة المفترضة بين تفجيرات تحدث في أنحاء متفرقة في العالم ومواقف تلك البلدان من سياسات أمريكية، وكيف تتغير المواقف بعد تلك التفجيرات لتجد أنك أمام سجل متراكم من استخدام هذه السياسة الإرهابية للي أذرع الأنظمة والجماعات من أجل القبول بإملاءات أمريكية مدعمة بالأساطيل الحربية الرابضة في عرض المحيط.
ولا ننس في هذا السياق أن الدور العالمي لأمريكا لم يتعملق إلا عقب أكبر تفجير شهدته البشرية وهو قنبلة هيروشيما التي أذعن العالم بعدها أن الولايات المتحدة هي أجرأ الدول على القتل الواسع بدم بارد.
و إلى جانب هذا النوع من الارهاب ثمة ارهاب دبلوماسي يتمثل جزء منه في تحذيرات الخارجية الأمريكية لرعاياها بالمغادرة أو عدم السفر دون مؤشرات مقنعة سوى ما يدور في الكواليس وتحت طاولة الاملاءات.
إلى ذلك، فإن الأيام في ظني، ستتكفل بكشف خيوط عدة لعلاقة من نوع ما، بين أمريكا وتنظيم القاعدة الذي صار ذريعة للتدخل الأمريكي في كل بلد، وحماراً قصيراً تستقله كل جريمة غامضة، وبؤرة استقطاب واكتشاف لمن يناهض سياسات التوسع الأمريكي، وبواسطته تقوم بتصفية منافسيها من ساحة التوسع ثم تميِّع القضايا بواسطة اشتراكها في التحقيقات عبر فريق من الخبراء والمتخصصين.. وعلى هامش قصة القاعدة اخترقت أمريكا الأجهزة الأمنية لبلدان شتى.. واستباحت السماء والماء وحطت بمارينزها على اليابسة.
ولعل من اللازم التأكيد على أن الكلام أعلاه لا يعني إنكاراً لوجود تنظيم يسمى القاعدة يناصب أمريكا العداء.. ولكن يبدو أن التنظيم هذا قد اختفى بفعل التحالف الدولي ضده أو حوصر حتى لم يعد يستطيع حراكا.. وكل ما هو موجود الآن أذرع مزروعة مهمتها تسهيل وتبرير التدخل الأمريكي في البلدان والبعث بالأنظمة.
ولنا أن نتساءل هنا: هل كنا سنقرأ نفياً للأنباء التي أكدت مقتل الشهري في غارة أمريكية استهدفته في العاشر من سبتمبر الفائت، لو أن عملية اغتيال وزير الدفاع اليمني محمد ناصر أحمد (12 سبتمبر) تمت بنجاح؟!
(3)
ونأتي إلى جريمة اغتيال الدبلوماسي السعودي خالد العنزي ورفيقه في صنعاء يوم أمس 28/11/2012 التي هزت المجتمع اليمني وبدت من حيث حرفية تنفيذها عملية بالغة الاتفان والخطورة.. في ظل ملابسات عدة أبرزها الإصرار الأمريكي على تجيير معطيات ونتائج مؤتمر الحوار المنبثق عن المبادرة الخليجية، بما يخدم أطرافاً إقليمية تعادي اليمن والمملكة العربية السعودية وفي ظل استسلام يمني من مختلف الأطراف لهذه الإرادة الأمريكية الجامحة التي لا تريد أن يقف في وجهها أحد.
ووفقاً للقراءة التي يقدمها بعض الأطراف اليمنية للأمريكيين والتي تصور ثورة الشباب في اليمن في العام 2011 بأنها انقلاب عملاء السعودية في اليمن (علي محسن وبيت الأحمر والإصلاح) على عملاء أمريكا (صالح وأبناؤه)، وفقاً لهذه القراءة نجد أن الأمريكان يستميتون في جعل المحصلات الدستورية والسياسية والأمنية تصب في صالح مشروعهم المشبوه لليمن والمنطقة، ذلك المشروع الذي يتماهى ويتطابق مع غايات المشروع الإيراني، وهذا التماهي كانت محصلته في السابق إسقاط كابول وبغداد في يد طهران ولا يزال التنسيق جارياً على قدم وسابق لابتزاز دول الخليج وخلخلتها واستحلابها تمهيداً لإقصاء ما تبقى من الأنظمة العربية التي قدمت وتقدم الكثير من التنازلات عن الثروة والسيادة ولكن المشكلة هو أن هذه الأنظمة لا تستطيع هدم سقف تنازلاتها كما أنها تستند على قاعدة شعبية وعقدية لا تشعر اسرائيل معها بالاطمئنان ولا تأمن معها أمريكا هبات النهوض المفاجئ الذي قد يهدد الاندياح السلس للوقود من هذه البلدان إلى الولايات المتحدة من وجهة نظر المخاوف الأمريكية.
هنالك مرحلة قادمة في اليمن يريد الأمريكان حسب مؤشرات عديدة، ان يكونوا هم اللاعب الأوحد فيها.. ولا ينافسهم في ذلك الا السعودية ممثلة بسفارتها في صنعاء.. والمريب ان منفذي عملية اغتيال العنزي ورفيقه تعمدوا ارتداء زي الأمن المركزي وكأنهم يريدون ايصال رسالة للسعوديين ان بقاءهم في السفارة الملاصقة لمعسكر الامن المركزي بصنعاء أمر محفوف بالمخاطر، وغير مستبعد ان يعرض الأمريكان على السعوديين، عقب جريمة الاغتيال، تولي حماية سفارتهم بدلا عن الامن اليمني!