كم كانت رائعة ومُذهلةً ثورة 48 ويالروعة صانعيها-..كم كانت رائعة في مُقدِّماتها وفي نمط حسمها الثوري الذي اقتضته معطيات عصرها على المستوى المَّحلي والدولي، ومع أن نهاياتها كانت تراجيديه دامية إلا أن ذلك لم يُقلَِل من مكانتها في رصيد التجرُبة البشرية ولا من عظمة الإنسان اليمني الذي أجاد تفعيلها وتغلَّب على طبيعة التَّحدي الذي فرضهُ عليه أخوه الإنسان قهراً وظُلماً وتشبُّثاً بالانحطاط والتَّخلُّف.
لقد كان الإمام يَحيى ونظامه السياسي والاجتماعي هو عين التحدي وكانت الثورة هي الإجابة المنطقية الواعية على هذا التحدي الإمامي الرهيب، التي قطعت أيضاً تسلسُل عصور الانحطاط وكانت هذه الثورة أشبه ما تكون بصرخةٍ عاتية أقيضت اليمن وأهلها من سُباتهم العَميق ورُقادهم المُميت؛ لقد كانت فريدةً من نوعها في مُحيطها الإقليمي والدولي اللذينِ كانا مازالا يُعانيان من تبعات وآثار الحرب العالمية الثانية وبزوغ النَّمط الاستعماري كمؤشر على التوجُّهات الحضارية الناشئة؛ لكنَّ ثوار اليمن..لم يأبهون بكل تلك المُعطيات التي كانت عبارةً عن ظروف غير مواتيه قد تكون مانعة من تحقيق حُلمهم تُحتِّم، عليهم تأجيل ثورتهُم، خاصةً وأنَّ النظام السياسي للإمام يحيى مُتجذر في الأرض وفي الإنسان؛ مقدس فكرياً وعقائدياً في التراث الثقافي اليمني.
ومع ذلك وبرغم أن كُل المُعطيات على كل المستويات كانت تُشير إلى استحالة إيجاد حدث ثوري في اليمن إلا أنَّ الثوار لم يجدوا بُدَّاً ولا مجالاً إلَّا الإسراع في صناعة الثورة، فالشعب كآنَ مُهدداً بالانقراض النوعي من الأرض مع أخذهم بعين الاعتبار أن تكون ثورةً مُتدرجةً واعية لطبيعة أرض الثورة وإنسان الثورة وطبيعة الأفكار السائدة في الذِّهن الاجتماعي عن مفهوم السُلطة السياسية وأن قيادة الثورة وهرمها السياسي في مراحلها الأولى بالضرورة يجب أن تكون متوافقةً مع هذا المفهوم الاجتماعي..أي يجب أن تكون القيادة مصبوغةً وموصوفةً بالثيوقراطية ولا إشكالية في ذلك مرحلياً فالمُهم أن تكون مؤمنةً هذه القيادة بِحتمية التغيير وحقَّ الشعب في حياة كريمه.
وخطَّط الثوار لثورتهم بكل كفاءة واقتدار ومسؤولية تجلَّت كُلها في أبجديات الثورة وإيقاعاتها وعدم إغفالهم لكُل الأبعاد والتبعات التي قد تنتُج عن فِعلهم الثوري عدا القصور البشري الاعتيادي، فشرعوا في الفعل الثوري باستهداف وإزاحة رأس السُلطة السياسية الإمام يحيى بتصفيته شخصياً كحل مادي أمثل للحَسم الثوري - من وجهة نظرهم- ومن ثَّم استولوا على مرافق الدولة في العاصمة صنعاء ووضعوا لأنفسهم نظاماً سياسياً مُتفرداً وشكلوا حكومةً وطنية ونصَّبوا بِحسب مُخططهم الإمام عبدالله الوزير إماماً على اليمن بدلاً عن الإمام يَحيى ونجحت الثورة في مرحلة الحسم الثوري، لكِنَّهُ نجاح نسبي ذلك أن ولي عهد الإمام يحيى ابنه الإمام أحمد مازال على قيد الحياة بعد أن فشِلَ الثوار في تصفيتهِ جسدياً كما رتبوا له واستهانوا بتبعات هذا الفشل وانشغلوا في ترتيب أوضاعهم الثورية وبذلك ونتيجةً لهذا الخلل الثوري والهفوة الرهيبة ظل النظام السابق كما هو عليه مُتمثلاً في الإمام أحمد يصول ويجول في أنحاء اليمن دونَ وضع حَد لحياته أو لتحرُّكاته؛ وللحقيقة التاريخية كان الإمام أحمد بصورةٍ أو بأخرى على اطِّلاع بحقيقة ما جرى في صنعاء وبحَبكةِ الثورة والثوَّار.
ولستُ في هذا المقام بصَدد التحقُّق عن مدى معرفة الإمام أحمد بِأنَّ المُخطط الثوري كان يستهدف تصفية والده، غير أنه من المؤكد أنَّهُ كان يُدرك أن هُناك ثورة مُضمرة في الغيب وشيكة الوقوع تستهدف نظامهم السياسي وبعد مقتل والده تحرك الإمام أحمد وحشد الحشود بحِنكةٍ عسكرية وسياسيه عاليه ضدَّ الثورة والثوار..مُستغلاً إلى أقصى حدٍ مُمكن القداسة الدينية الذاتية التي كان الشعب يعشقها فيه وفي أسرته فهم سُلالة آل البيت كما أعتقد الشعب ذلك ونُصرتهم واجبة دينية خاصةً وأنَّ أعداءهم مجموعةً من الشباب الغير مُقدَّسين (المدسترين) كما كانواْ يُسمونهم وما الإمام عبدالله الوزير بِرغم أنه كان أيضاً من آل البيت إلا باغياً خارجاً على مولاه الإمام يحيى وولي عهده وحشد النظام السابق بقيادة الإمام أحمد مُناصريه من القبائل عشاق الأصفر الرنان والمَعبر الحنان بعد أن عبأهم فكرياً وعاطفياً إلى درجة أنه كسب المعركة -في تصوري- قبل وقوعها.
وعلى نفس السياق وربَّما في الوقت ذاته كان الثوار يتحركون على كل المستويات استعداداً للمعركة التي كان يحشُد لها ويُعدَّها النظام السابق وأدرك الثوار أنَّهم ارتكبوا خطأً فادحاً بعدم تحديد قُدرات النظام السابق وأنَّهُم أضاعوا وقتاً ثميناً كان يجب أن يُستغل في مطاردة رأس النظام السابق المُتمثل في الإمام أحمد وأن فشل تكتيك تصفيته تحول إلى خطر إستراتيجي أجهض الثورة فيما بعد.
ولسنا هنا بصدد تقييم تاريخي للثورة أو التطرُّق للأسباب الموضوعية لفشلها غير أن المناسبة تقتضي القول إن الثوار أعدُّو بالفعل كُل ما امتلكوه من إمكانيات لمواجهة النظام السابق وأعوانه، غير أن الإشكالية كانت كآمنةً في شخصية الإمام عبدالله الوزير وتردده في اتخاذ القرارات وعدم إنصاته لأفكار وآراء الثوار خاصة في الأوقات العصيبة..فلطالما نصح الثوار الإمام عبدالله بتغيير نمط أفكاره في كيفية إدارة النظام السياسي الثوري ولطالما كان الثوار يقولون لهُ إنه لابُدَّ من وضع حدٍ لأعداء الثورة الذين يتآمرون عليها ليلاً ونهاراً، لكنهم لم يجدوا منه آذاناً صاغية، فلقد كان -رحمه الله - متسامحاً مُتساهلاً مع أعدائه إلى درجة الإفراط المَعٍيب حتى والإمام أحمد يطرُق أبواب صنعاء بجحافله ظل الإمام عبدالله مُصراً على كُل آرائه دون الالتفات أو حتى مناقشة الآخرين فيما يرونه له.
أقول حتى في هذه اللحظات وصنعاء تقترب من الاحتراق لم يُنصت الإمام عبدالله للرأي القائل بضرورة خروجه من صنعاء وترك القصر الذي كان يقبع فيه والاستعداد لمعركة طويلة الأجل مع بقايا النظام السابق، غير أنهُ لم يستمع لهم وأصر على الجلوس في صنعاء والاعتكاف داخل قصره منتصراً الغائب المجهول وإنَّه لشر منتصر وكل ما حاول الثوار ثَني الإمام عن رأيه فشلوا وازداد هو إصراراً على موقفه بعدم الخروج من صنعاء والاعتصام بقصره؛ حتى بدأ النظام السابق بالاقتراب من صنعاء فهَرع الشهيد البطل (جمال جميل) رحمه الله إلى الإمام عبدالله، راجياً منه الخروج من قصره وترك صنعاء غير أن الإمام صَدَّهُ ولم يستمع له، وأدرك الشهيد أن الثورة تلفظُ أنفاسها الأخيرة وأن الموت قدرهُم وهو خيارهم الوحيد بعد أن أقفل عليهم إمامهم كُل منافذ الإنقاذ الثوري الممكنة؛ ودخل النظام السابق إلى صنعاء مُرتكباً فيها كُل الجرائم البشعة بِحق الإنسان ومآله وعرضِه! واستُشهِد الإمام عبدالله مع أغلب أفراد أسرته واستُشهِد البطل جمال جميل واستُشهد أبطال ثورة 48 في مجزرةٍ رهيبة نفذَّها إمام النظام السابق ودوَّن التاريخ بهذه النهاية المأساوية للثورة أن الثورات قد تفشل في حال لم يكن لها قياده حازمه حاكمه تميلُ للمغامرة والقفز فوق مُعطيات حُب البقاء فتلك هي مُعطيات الحسم الثوري؛ لقد كان لتردُّد الإمام عبدالله وعدم اتخاذ القرارات في المكان والزمان المناسبين عميق الأثر في عدم وصول الثورة إلى نهاية الحسم الثوري ومن ثمَّ العبور إلى مرحلة العبور الثوري .! رحم الله الإمام عبدالله الوزير..رحم الله القائد البطل جمال جميل رحم الله شُهداء هذه الثورة.
والآن أجدني مُضطراً للقول كم هي رائعة الثورة الشبابية السلمية في بداياتها وفي نمط حسمها الثوري ومرحلتها العبورية التي مازلنا نحياها إلى الآن وحيث أن الشيء بالشيء يُذكر..فإن استبدال ثورة 48 إماماً بدلاً عن إمام كان خياراً ناضجاً وفي نفس الوقت ضرورةً ثوريه تماماً كاختيار الثورة الشبابية السلمية رئيساً مؤتمرياً بدلاً عن رئيس مؤتمري وإنه أيضاً لخيار ناضج وضرورة ثورية ؛هذا التشابه الجُزئي العجيب بين الثورتين أتمنى أن لا يصل إلى حد التطابق الكامل ويكون بذلك استنساخاً حرفياً للتاريخ في الوقائع أيضاً وفي النهايات فعدم الحد من تحرُّكات النظام السابق والتساهل في التعامل معه من النظام اللاحق قد يجعل التطابق مُمكناً حتى في النتيجة والأدهى من ذلك والأمر أننا قد نكون الوحيدين في التاريخ الإنساني الذين قد يُوصفون بأنهم يقتلون ثوراتهم في الرَّمق الأخير!