لليمن تجربة طويلة وشاقة مع الحوار.. ومن مألوفاتنا أن تكون حواراته على شاكلة واحدة؛ إما مدخلاً للاحتراب أو نهاية فصل من مدونة الصراع وبداية فصل آخر.
ومن – نكد الدنيا – على اليمنيين أن تفضي حوارات السلاح إلى نتائج ذات أثر واضح على معادلات الواقع، فيما لا يكون للتجارب الحوارية المرتبكة الأثر نفسه، اللهم إلا من خروج المتحاورين بحماس أشد لمواصلة الصراع، وإدامة أسباب الجدل البيزنطي العقيم عن أيهما أقدم البيضة أم الدجاجة.
لقد أنجزت حوارات السلاح وعودها، فقسمت العاصمة اليمنية إلى شطرين، وأخرجت صعدة عن الخدمة وجعلتها مركزاً يصدر الديناميت إلى ما عداها من محافظات.. واستطاع ائتلاف الفساد والقبيلة والسلاح تشييد دويلات صغيرة تمنح النافذين من طواويس الذوات، حق التطاول على الدولة. وعبر مراحل تطول أو تقصر لم يخسر حوار السلاح أيا من تحدياته على صعيد إنهاك سلطة القانون وتقويض المؤسسة العدلية ورهن البلاد لمنطق القيادات وثوابت المتاريس.
على هذه الخلفية تدور عجلة الإعداد والتهيئة للحوار الوطني كأولوية قصوى من أولويات الرئيس هادي، ويجوز اعتبارها في جانب آخر أبرز الرهانات المشتركة بين الرئيس اليمني ومعظم حكومات العالم، وبمقدمتها دول مجلس التعاون الخليجي.
وبقراءة أولية لمواقف وتصريحات القيادة السياسية اليمنية، فإن الرهان على الحوار الوطني ينطلق من رؤية متفائلة ترى في انطلاقته بلسماً لجراح التاريخ، وضماداً معتبرا لأدواء الدولة والشعب اليمنيين.
ولضمان نجاحه، تعهدت الدولة بتنحية الشروط المسبقة جانباً، وهو الأمر الذي يعفي جماعات السلاح من رفع أيديهم عن تملكه أو التلويح به. وجاء في البند الثاني من هذا التعهد إزالة السقوف عن أي قضايا يراد وضعها تحت مظلة الحوار، وذلك جيد لولا أن الجزء الأخير من تعهد الدولة حول مشاركة واسعة لا يستثنى فئة أو فكرة أو كيانا سياسياً مهما اختلفت الأوزان.. وهو الوعد الذي جرى نكثه في وقت مبكر مما يجعل الحوار هدفاً لمناورات وهوس الحساسيات التقليدية ومراكز القوى المستندة لقوة السلاح والمعززة بتحالفات غير معلنة مع جيوب النظام السابق.
وخلال الفترة القليلة الماضية بدا واضحاً أن محاصصات المشاركة وتقاسم المقاعد – بين منظومات الصراع الذي أوصل اليمن إلى حافة الخطر – يمثلان ركيزة أساسية تفوق أهمية الحوار نفسه، على أن السوال الملح أو بالأصح الفخ القادم يتمثل في تحول المحاصصات على نسب التمثيل إلى أزمة حادة كتلك التي واجهت اللجنة الفنية أوائل الشهر الماضي، وشارك في إخمادها مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة جمال بن عمرو وسفراء الدول العشر الراعية مسار حل المعضلة اليمنية!
كثيرون لم يجدوا تفسيرا لما حدث أكثر من كونه مجرد حالة مرضية ناجمة عن شعور بتضخم الذات عند بعض القوى، وربما عُد الأمر نوعاً من مجازفات قوة العادة وطباع الأثرة والاستحواذ، أما في الحقيقة فإن البؤر التي رفعت عقيرتها بالصراخ والتهديد، مطالبة برفع حصتها من المقاعد لم تفعل ذلك جريا على العادة فقط، قدر تحركها من دوافع سياسية مبيتة ترمي إلى تعطيل الحوار قبل انعقاده وتفخيخه إذا التأم، وضمان مشروعية الخروج على نتائجه متى كان ذلك ممكناً.
والواقع أن الطرف الذي أعاق التسوية منذ الوهلة الأولى لتداول مسودة المبادرة الخليجية، يكتسب مع مرور الوقت خبرات إضافية تساعده على خلط الأوراق، وتمكنه من استعادة أدوات إعاقة تضاعف قدرته لا في تأجيل حكم التاريخ عليه، وإنما في تطويق الرئيس المنتخب بالأزمات وإحاطة البلاد بسيل جرار من المعضلات.
إذ ما يكاد الرجل يتحدث عن إنجازات تم إحرازها قياساً بما كانت عليه الأوضاع قبل أقل من عامين حتى تنفجر في وجهه مشكلات مفتعلة تحول دون حماية الإنجازات التي يلمح إليها في خطاباته، ودون تحقيق المزيد منها.
يتحدث عن الاستقرار، فيأتي الرد سلسلة من الاغتيالات وعمليات الهدم والترويع.. يشيد بدور الأشقاء في المملكة ويكون الجواب خطفاً لدبلوماسي سعودي وقتل آخر.. يبشر باستقرار الحالة الاقتصادية فتشتعل أنابيب النفط.. يدافع عن الجهد المبذول لوقف الإطفاءات الكهربائية فتتواتر العمليات التخريبية ضد شبكات الطاقة.. يحاول دفع حكومته للعمل بروح الفريق الواحد فيجري الإيعاز بنسف تلك الروح...إنها معطيات شبيهة بما قالته العرب: "البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير"، فكيف سيكون الحوار خطوة إلى الأمام وعلى طول الساحة اليمنية وعرضها من يشد البلاد عشر خطوات إلى الخلف؟ وهل يكفي اليمن أن يكون رئيسها المنتخب متفائلاً؟
أتوقف عند هذا القدر، بعدما صار الحوار حكرا على أطراف الصراع السياسي وجماعات السلاح.. على أن الواجب يقتضي من كل ذي حق أو مصلحة أن يلقي نظرة نحو الحلم البعيد، حيث يتراءى وجه اليمن الجديد.. ومن أجل هذا الحلم تهون المصالح وإن عظمت – وقبل هذا ومعه – سيجد كلٌ ذاته ومصلحته ووجوده من غير حاجة إلى مال مدنس أو سلاح.