آراءأرشيف الرأيالفكر والرأي

مخالب واشنطن في اليمن

فرضت عملية الحصاد السيئة لمخرجات أحدث الثورة في اليمن-وهي تقترب من عامها الثاني- ارتهان البلاد في أيدي قوى دولية وإقليمية، واشتداد التنافس بين هذه القوى، التي وجد الجميع أنفسهم فيها أمام مأزق هو أكبر من أن يواجه بانفراد، وقد كاد اليمن أن يكون بين عشية وضحاها، مقسم الأوصال، ومتعدد الولاءات والاستقطابات، وقد كانت أكبر تلك القوى وأوفرها نصيبا، هي الولايات المتحدة الأمريكية.

كانت اليمن-وما تزال- محل اهتمام صانع القرار الأمريكي، منذ أن بدأت الولايات المتحدة فرض حضورها في المنطقة العربية، وظهور التنافس بينها وبين الاتحاد السوفييتي-سابقا- عندما استٌقطبت دولة جنوب اليمن نحو المعسكر الشرقي، وحاول حلفاء الأمريكان ضم دولة الشمال إلى المعسكر الغربي؛ لكن موقف هذه الأخيرة ظل يراوح في المنطقة الرمادية حتى سقوط الاتحاد السوفييتي كقوة منافسة على زعامة العالم، وذلك مطلع تسعينات القرن الماضي.

وقد دفعت اليمن الأثمان الباهظة على امتداد ستة عقود، مقابل موقفها القومية والإسلامية تجاه الكثير من القضايا، وكذا وقوعها كدولة متواضعة القوة فيما يعرف بمنطقة "دول الأطراف" وهي المنطقة التي تحيط أو تقع على نقطة هامة في محيط موقع جغرافي يتنافس على مركزه كيانات دولية كبرى، كان أبرزها: الاتحاد السوفييتي، والولايات المتحدة الأمريكية، وكان هذا الموقع الجغرافي هو منطقة الخليج العربي الغنية بالنفط.

وعلى امتداد فترات الصراع التي جمعت بين ما كان يعرف بالشطرين: الشمال والجنوب، كان قطبا التنافس العالمي وحلفائهما، هم من يدفع الوضع بين الطرفين إلى التأزم، ثم الاحتواء والحل، على طريقة: نحن من يصنع السحر، ونحن من يفسخ أثره!! ثم جاءت الأحداث التالية لما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي أوائل تسعينات القرن الماضي، على وجوه أخرى أفرزتها العولمة أو الأمركة- إذا جاز التوصيف- أو جاء بعضها كامتداد لما سبق من ذلك التنافس، وهي قضية ما وصفّه وروج له الغرب بالإرهاب، التي كان متنفسا غير اختياري لجماعات وكيانات مضطهدة ومهضومة الحق، كان العرب والمسلمون هم ضحايا ذلك، وإن كان عالمي الهوية.

سعت الولايات المتحدة الأمريكية- بكل وسائلها المشروعة وغير المشروعة- لأن تحِل-عسكريا، وسياسيا، واقتصاديا- محل الدب الروسي الذي انشغل بأزمته وترك حليفه اليمني يصارع كبقية الحلفاء وضعه الاقتصادي المرير وديونه التي تنؤ عن حملها دولة محدودة الدخل مثله، فكان سبيل الدخول إليه وإلى ما يتمتع به من موقع جغرافي متميز، هي بوابة الوحدة التي كانت موصدة في وجوه اليمنيين في ظل بقاء مخاوف الخصم الذي ترجل خاسرا، وسلم أزمّة قيادة العالم للقائد الجديد؛ الولايات المتحدة الأمريكية!!

الحقيقة أن مرحلة الترويض الأمريكي التي مرت بها يمن الوحدة قبل حرب صيف 1994م وبعدها، جعلتها تقع تدريجيا في الشراك الأمريكية الشديدة القبضة، ولو بدا ذلك أقل درجة من وقوع دول عربية وإقليمية أخرى محيطة في ذات الشَّرك، وقد تجلى ذلك بوضوح، هنا في اليمن، في بُعدين: البعد العسكري، والبعد السياسي، وكان قد سبق هذين البعدين بعد اقتصادي محدود، تمثل في التنقيب على النفط أواخر ثمانينات القرن الماضي، وانفتاح السوق اليمنية أمام المنتَج الأمريكي عبر وسطاء خليجيين.

كانت موجة الإرهاب التي اجتاحت العام بعد أحداث مانهاتن في سبتمبر عام 2001م، مبررا غير متوقع لكسر كل يد تقف في طريق راعي البقر الأمريكي، وكانت قبلها بعام، تحاصر مدينة عدن قوات مارينز أمريكية، تحت ذريعة تعرض المدمرة الأمريكية يو أس أس كوول لهجوم انتحاري نفذه قاعديون ضدها وهي رابضة للتزود بالوقود في ميناء عدن، وجاءت هذه الواقعة كما لو كانت تكرارا لحادثة السفينة داريا دولت، التابعة لشركة الهند الشرقية من شركات التاج البريطاني، التي مكنت بريطانيا من احتلال الجنوب لمدة 129عاما، كان مبتداه يناير عام 1839م ومنتهاه نوفمبر عام 1967م، في أكبر خديعة في التاريخ.

وعلى امتداد أكثر من عقدين، والولايات المتحدة تمعن في غرز مخالبها في الجسد اليمني، رويدا رويدا، على أخطاء ومطامع حكامه في البقاء على كرسي الحكم، والتنافس على حطام الدنيا الحقير، في حين أن الأمة والأجيال القادمة هي من يدفع ثمن ذلك، من ثرواتها، وسيادة وطنها، واستقلال قرارها..!! وما الحال الذي تقبض فيه واشنطن على عنق الوطن اليمني هذه الأيام، في ظل هذا المخاض الثوري الذي يجري اغتيال مولوده بتنازع أطرافه؛ إلا شاهد صدوق على هذا القول.

إن من الغباء أن نفسر ما تقوم به الولايات المتحدة في اليمن من مساعٍ دبلوماسية، تهدف في المقام الأول للم الشمل اليمني، وتقريب أطرافه المختلفة الرؤية المصطرعة على السلطة، انطلاقا من قرابة في الدين أو اللغة أو التراب، تجمعنا مع هذا القادم من وراء الأطلسي، والذي يسهر الليالي حنانا وشفقة بنا!! إن الحقيقة تقول: إن ذلك عدم، وإن المصلحة هي التي تدفعه لذلك، وإن الثمن سيكون دون شك كبيرا وفادحا ما لم يتيقظ ما أعطاهم هذا الشعب حق الكلام بدلا عنه.

أحسب أنني لا أبالغ في هذا الطرح، لكني أستشرف المشهد القادم من بعيد جدا، وتقترب مني وقائعه من خلال معطياته الحالية الواضحة، وأول تلك المعطيات: المعطى السياسي؛ وهو معطىً صنعت شخوصه وجسمتهم، أو تعاملت معهم بطريقة برغماتية، الولايات المتحدة، فأصبح المشهد القادم نسيجا متنافر الألوان، ومتقادم العهود، لا تجمعه رؤية سياسية موحدة، ولا هدف وطني أصيل، بل يحمل كل منهم سلاحه ويتحين ساعة القضاء ورد الدَّين، على حسٍّ مدَرك من قبل الولايات المتحدة التي تهيئ فيه لنفسها لأكثر من بديل، للتعاون معه في أي معترك يمني قادم، وعلى أي هوى، وأيا كان ذلك المتنصر!!

برغم من النفور أو القدر الضئيل من الرغبة والرضى الذي تبديه هذه الأطراف تجاه واشنطن، إلا أن واشنطن أضحت الآمر والناهي في اليمن، وأصبحت حاجة أطراف بعينها لواشنطن، مدعاة لحصولها على امتيازات تتعارض مع السيادة الوطنية، حتى أن الأمر قد أغرى حكومة واشنطن -بعد السماح لها بإدخال قوات محدودة من المارينز إلى صنعاء- بالتدخل في القوات المسلحة، وفي بعض الأجهزة الأخرى التي كان لها يد سابغة في وجودها، خاصة تلك التي تعمل بالتعاون معها في مكافحة الإرهاب، وتعقب الخصوم الحقيقيين والمفترضين لها على الأرض اليمنية، وقد قضى على الكثير منهم قتلا عبر الاغتيالات، وعبر قصف الطائرات الأمريكية بدون طيار، وبمساعدة أموال جهاز مخابراتها السي آي إيه، الذي يغدق بها على عملائه في كل مستويات النظام، وفي صفوف القاعدة الشعبية التي اخترقتها، في المناطق التي ينشط فيها تنظيم القاعدة.

واليوم، تبرز مخالبها في جسد المؤسسة العسكرية، التي لم تسلم من مخالب بنيها أيضا وللأسف، حيث تثار هذه الأيام حكاية مضحكة رغم مضمون حزنها، ألا وهي قضية الصواريخ الباليستية التي تمتلكها اليمن، بعددها المحدود وقدراتها المتواضعة، وهي صواريخ من نوع سكود، كورية الصنع، التي استوردتها اليمن عام 2002م، لتعزيز قدراتها الدفاعية السلمية، ورفد ما هو موجود ومتقادم من هذه المنظومة، التي كانت في عدن قبل الوحدة عام 1990م.

وعلى سبيل التذكير؛ فإن هذه الصواريخ، كانت قد اعتُرضت في مياه بحر العرب، من قبل سفينتين حربيتين إسبانيتين، بالتعاون مع القوات البحرية الأمريكية، وهي في طريقها إلى اليمن، على متن سفينة قامة من كوريا الشمالية، ثم أفرج عنها بعد مساعٍ حثيثة، كان مقابل ذلك، التعاون اللا محدود في مكافحة الإرهاب، وفتح المجال الجوي اليمني أمام الطائرات الأمريكية المختلفة لتعقب وقتل أفراد تنظيم القاعدة، وها هي الموجة تعود من جديد مطالبة بالتخلي عن تلك الصواريخ، مع بروز خلاف حولها وحول المنظومات الصاروخية الأخرى التابعة لها، في صفوف الجيش المؤيد للثورة والحرس الجمهوري الذي يسيطر عليها، وهذا الأمر كما يبدو- قد أسال لعاب واشنطن، وأحيى ذكريات الماضي، إذ يبدو أنها ما تزال تشكل قلقا على قواعدها في جيبوتي، وعلى أطراف إقليمية أخرى تقع كياناتها العسكرية والمسلحة في مدى هذه الصواريخ.

إن توغل وتغول النفوذ السياسي والعسكري الأمريكي في اليمن خلال هذه الأيام، لا ينبغي السكوت عنه، ويجب على النخب المثقفة أن تثير مثل هذا الأمر، وتواجه به الجماهير، وهو وإن كان له تأثير سالب على العلاقات الحميمة المدعاة زعما باطلا بين البلدين؛ فإنه يشد من أزر النظام الحالي ورجاله الرافضين لهذا التدخل وأشكال الضغط الأخرى، التي بدا تأثيرها واضحا في القرار السياسي اليمني المتعثر، في مسألة هيكلة الجيش، بحكم الظروف الصعبة والمدبّرة التي تمر بها البلاد، وهذا الأمر، هو حق مشروع لنا، مثلما هو حق مشروع لهم، وهم يتنادون لتحقيق أهداف ومصالح والولايات المتحدة الأمريكية.

حكي لي أحد أصدقائي الفرنسيين، أنه خدم خدمة الواجب لمدة عام كامل في القاعدة الفرنسية في جيبوتي، وهي من أكبر القواعد الفرنسية خارج أراضي فرنسا، لما تتضمنه من أسلحة مختلفة، لأغراض عسكرية برية، وبحرية، وجوية، حيث تتبعها قطع بحرية متنوعة مرابطة في مرافئ معروفة من سواحل جيبوتي، وأن هذه القاعدة تقع على مسافة ليست بالبعيدة من القاعدة الأمريكية في جيبوتي نفسها، ومدعى هذا الطرح من قِبلي، هو التساؤل المستغرب- ولا غرابة أيضا أمام الصلف الأمريكي- : لما تبدي أمريكا ودول إقليمية أخرى قلقها من هذه الصواريخ، في حين أن فرنسا لا تبدي مثل ذلك القلق؟!

وعلى العموم، فإن دروس العراق وليبيا، وقبلهما الصومال وأفغانستان، لا يجب أن تمر علينا دون أن نستوقفها، وأن نأخذ العبرة منها، ولا أخال الوضع القائم إلا في الاتجاه الذي يُخشى منه، ولكن يجب- ونحن نلمس ذلك- أن نخرج منه المخرج الحسن، وعلينا أن لا نطمع في مستقبل لدولة مفككة، أو لدولة يعد لها أن تكون دويلات مفككة في المستقبل المنظور؛ فذلك ارتداد عن أهداف الثوار الذين قدموا دماءهم رخيصة لوحدة هذا البلد وقوته وتماسكه، وتعايش كل فئاته، بما يصون للجميع حرية الرأي والتعبير والمعتقد.

*باحث في شئون النزاعات المسلحة

زر الذهاب إلى الأعلى