آراءأرشيف الرأيالفكر والرأي

«الجمهورية» والمركز المقدس إعلامياً !!

لا زالت معايير المركز والأطراف ، والمتن والهامش هي المتحكمة في تقييم أداء الصحف الرسمية والمؤسسات العامة التابعة لوزارة الإعلام.

من البدهيات المتعارف عليها أن الميزانية العامة للدولة تعكس توجهات الإدارة العامة للبلد وتوجهاتها الثقافية والاقتصادية والسياسية ، حيث تترجم الأهداف التي يراد تحقيقها إلى أرقام ومعايير حاكمة لميزانيات الجهات المختلفة ، وتحدد نفقاتها ومستوى أهميتها قياساً إلى الأولويات الأخرى استنادا إلى هذه الأهداف.

وقد كان مفهوماً في ظل النظام السابق أن تغيب السياسة العامة ومعايير المجتمع والدولة وأولوياتهما ، لتحل محلها معايير الهيمنة من قبل المركز ، ومؤثرات العلاقات الشخصية والتوازنات التي يعكسها النظام في تحديد معايير الميزانية العامة للدولة ومتغيراتها.

غير أن بقاء هذه المركزية المفرطة المدمرة في ظل الثورة. مضافاً إليها العلاقات الشخصية ، ومرفوقة بغياب المعايير التي تتلاءم مع أهداف المرحلة الانتقالية يضع علامة استفهام كبيرة حول الحكومة وسياساتها وليس فقط الأداء المرتبك لوزارة المالية وإجحافاتها.

لفت نظري اول أمس وأنا أتصفح مشروع الميزانيات التقديرية لنفقات المؤسسات الإعلامية الأرقام الغريبة والمتفاوتة بمزاجية مقززة ومستفزة ولا علاقة لها بالواقع والمعايير المنطقية والأهداف العامة المتوخاة من هذه المؤسسات.

صحيفة الثورة التي تعيش حالة موت سريري منذ بداية الثورة قفزت ميزانيتها بالزيادة بنسبة 56 بالمئة ، ووكالة سبأ التي لا يمارس النشاط فيها الآن سوى مجموعة من الزملاء بعدد أصابع اليد قفزت ميزانيتها بنسبة 33 بالمئة ، طبعا لا يدخل في الميزانية المذكورة تكاليف إعادة بناء المقر الرئيسي للوكالة الذي دمر العام الماضي.
صحيفة 14 أكتوبر تقع في الأطراف المقصية غير أنها نفذت من بوابة خوف المالية من مزاج الحراك الجنوبي ووصلت نسبة الزيادة في ميزانيتها إلى 10 بالمئة.

وحدها صحيفة الجمهورية من تشتغل ضدها كل اسبرينجات المالية ومعاييرها والمركز المقدس في الهضبة القبلية والنظرة التاريخية التهميشية لمحافظة تعز وكل ما يمت إليها بصلة ، كل تلك الأثقال تضافرت مجتمعة لتوقف الزيادة في ميزانية الجمهورية في حدود 4 بالمئة ، مع أنها في مرتبة متقدمة في تحقيق زيادة نسبية في إيراداتها، وزيادة أكبر بكثير في مستوى احترام الجمهور لأدائها الثري صحافيا وثقافيا.

كانت تعز تضج بالنشاط الصحافي والثقافي والسياسي في الستينيات والسبعينيات كما اخبرني المعلم الراحل هاشم علي ، حيث كانت الملحقات الطبية والثقافية والصحافة والأحزاب والأندية وغيرها من مظاهر الحيوية والنشاط.

ثم جاء النظام الارعن وربط كل شيء بالعاصمة والمركز وقوض كل شيء ، ووجد المواطنون في شبوة وحضرموت وقبلهم تعز والحديدة انفسهم بحاجة إلى الطلوع إلى صنعاء للمراجعة على راتب موقوف أو تسوية وظيفية.

وبالرغم من حالة المركزية الشديدة التي تأبى أن ترى أي مظهر من مظاهر الحيوية خارج المركز ، فقد قاومت صحيفة الجمهورية هذه الحالة التهميشية، وكسرت الحاجز في منتصف التسعينيات بصحيفة الثقافية التي حركت المياه الراكدة وخلقت نقاشا فكريا وثقافيا وسياسيا جعل من دورها يتجاوز دور الصحيفة إلى كونه مرتكزاً للحظة تحول مجتمعي بدأت إرهاصاتها من صفحاتها والقضايا التي أثارتها.

طوال العام الماضي كانت الجمهورية هي الصوت المسموع المعبر عن جوهر المرحلة الانتقالية وقضاياها ، والمنبر العام الوحيد الذي سرت في أوصاله روح ثورة الشباب وتطلعاتهم، ولو أن الرئيس عبد ربه منصور هادي وحكومة الوفاق وضعوا مجلدات الصحف الرسمية ونشاط الوكالة خلال العام الماضي فوق مكاتبهم وقارنوا بينها لوجدوا أن المنبر الأكثر حيوية وتفاعلاً مع توجهات السلطة الانتقالية ومع الرأي العام في آن واحد هو صحيفة الجمهورية التي اكتسبت ثقة الشارع اليمني ، ولم تكسب رضا وزارة المالية وكهنتها.

وربما كان هذا الدور الذي أجادته صحيفة الجمهورية في خدمة المهنة أولاً وتطلعات ثورة الشباب ثانياً وتوجهات السلطة الانتقالية ثالثا هو ما جلب عليها غضب المالية ومعاييرها المختلة التي يبدو أنها تخضع للمعايير الشخصية المزاجية أكثر من أي معيار عادل لا وجود له في أجندتها.

على حكومة الوفاق أن تفوق من سباتها، فزمن التعتيم والدعممة قد ولى، والبديل هو الإجادة والمنافسة عبر تطوير الإعلام العام ودعمه بترسيخ مناخات الحرية أولاً ودعمه المادي ثانياً ليتمكن من المنافسة مهنياً في زمن غدت فيه الصحافة صانعة سياسة وليس فقط مرآة للأخبار والأحداث.

والبداية هي وضع معايير عادلة لتقييم الأداء بعيداً عن العقول الصدئة وأمزجتها المذحلة التي أكل عليها الدهر وشرب

زر الذهاب إلى الأعلى