يشكل التعليم أحد أبرز مفاتيح التنمية الوطنية، وبقدر الخلل في منظومة التعليم يمكننا التنبؤ بحجم التحول التنموي المستهدف، لذا فالحرص على تحقيق أهداف التعليم التنموية على قدر كبير من الأهمية ..
ومع أن كثير من دول العالم المتقدم لم تنهض إلا بعد نهوض التعليم، إلا أن كثير من دول العالم النامي ومنها الجمهورية اليمنية لازالت بعيدة عن إدراك أهمية الجودة في الخدمات التعليمية على الرغم من المخصصات المالية الكبيرة في الموازنة العامة للدولة ورغم وجود القوانين النافذة التي تهدف إلى تعزيز معايير الجودة في التعليم بمراحله المختلفة.
إن ظواهر سلبية وممارسات من قبل المنتسبين لمهنة التعليم ستؤدي إلى إفراغ التعليم من محتواه وستؤدي إلى تخريج ملايين الأميين من حملة الشهادات المختلفة، إن تلك الممارسات تدخل في باب الخيانة المهنية الأكاديمية والتي ترقى بالتالي إلى مستوى الخيانة الوطنية، كون المعلم في التعليم العام وعضو هيئة التدريس في التعليم العالي كلاهما في مهمة وطنية تتلخص في صيانة الجيل الحالي وإكسابه المعارف والمهارات والاتجاهات وفق ما تنص عليه القوانين النافذة ويتلّقون مقابل ذلك العمل رواتب وامتيازات من المال العام، إلا أن غياب الرقابة الرسمية وتواطؤ بعض المكونات الاجتماعية دفعت بالكثير من ضعاف النفوس إلى ارتكاب مخالفات جسمية تصل حد الخيانة الوطنية وسوف نذكر بعضها كما يلي:
1- الغش في الاختبارات : من المؤسف أن يصبح الغش ظاهرة مشاهدة ومسكوت عنها، ففي التعليم العام تصل تلك الخيانة الجسيمة وخاصة في المراكز الاختبارية الريفية للشهادات العامة حد كتابة دفاتر بنماذج إجابات يحصل صاحبها على معدل التسعينيات مع أنه يجهل بأبسط المعارف المشمولة في منهج تلك المرحلة، ووصل الأمر حد تسجيل أبناء المدن للمراحل العامة في المناطق والمحافظات النائية ثم وبرحلة مدفوعة الأجر إلى إحدى تلك المناطق يعود إلى مدينته حاملاً مؤهلاً مزوراً بمعدل نجاح عالي يمكنه من الاستحواذ على منحة دراسية في تخصص نادر، وقد ينال تلك المنحة ويغادر الوطن وعند وصوله إلى الدولة المعنية يفشل في تجاوز متطلبات التخصص فيبحث عن تخصص آخر وبعد ملاحقته بالفشل يتلاعب بالمنحة الدراسية لسنوات ويعود إلى أرض الوطن فاشلاً بعد أن أهدر ألاف الدولارات، إنها دورة من الفساد تبدأ بخيانة أكاديمية لمدير مركز تعليمي يتلقى رشوة ربما لا تتجاوز أحياناً خمسة الاف ريال(حوالي 20دولار)ولكنها تفقد الدولة عشرات الألاف من الدولارات وتحرم المتفوقين الحقيقين من نيل تلك المنح، ومن ثم تستمر دورة الفاشلين في تدمير مستقبل هذا الوطن.
2- الشهادات العلمية : من مظاهر الخيانة الأكاديمية حصول بعض الطلاب على شهادات دراسية بدون حق، ومن ذلك ظاهرة بيع الشهادات الدراسية في التعليم العام، فكثيراً ما تجد أحد الطلاب المقيمين في مدينة ما تأتيه شهادة دراسية من منطقة ريفية مقابل دفعه مبلغ زهيد كرشوة لمدير مدرسة أو موظف في إدارة تعليمية، وتمتد تلك المخالفات إلى بعض المدارس حتى في المدن، فمثلاً قد يتأكد رسوب طالب ما عند تصحيح أوراقه وربما يعلن رسوبه نهاية العام، ومع بداية العام التالي يجده زملاؤه الناجحين معهم في مقاعد الدراسة لأنه تمكن من تسوية وضع رسوبه خلال الإجازة الدراسية!!!إن تلك الحالة تفقد الشهادة العلمية قيمتها وأهميتها، ويأخذ التلاعب بمحاضر الغش والتقديرات في الجامعات نفس تلك الدرجة من المخالفة.
3- غياب العاملين في القطاع التعليمي: من المؤسف أننا عندما نرجع إلى كشوفات الرواتب على المستوى الوطني يمكننا ببساطة التأكد من ناحية نظرية أن هناك اكتفاء ذاتي من المعلمين والمعلمات وأعضاء هيئة التدريس بالجامعات وفق معيار النصاب التدريسي، ولكننا في واقع الفصول والقاعات الدراسية نجد أن هناك عجزاً لبعض التخصصات ..
والغريب أننا لو دققنا في بعض المعلمين لوجدناهم إما مغتربين خارج الوطن أو عاملين في مهن أخرى مثل التدريس في المدارس الأهلية أو أعمال البناء والبيع بالتجزئة ...إلخ ويتم التستر على غيابهم من قبل مدراء المدارس وموظفين فاسدين في الإدارات التعليمية مقابل جزء من الراتب، ومن المؤسف أن تنتقل هذه الظاهرة إلى الجامعات اليمنية الحكومية حيث يتغيب بعض أعضاء هيئة التدريس لفترات مختلفة وعندما يتساءل الطلاب عنهم لا يجدون إجابة بل تقوم عمادات الكليات بتغطية ذلك العجز من خلال تكليف معيدين حديثي التخرج بالتدريس،
وبذلك تحولت الجامعات إلى ما يشبه نظام الكتاتيب الذي كان المعلم(الفقيه) يعتمد فيه على كبار الطلاب لتعليم الصغار، ولكن الكتاتيب كانت أرقى من الجامعات كون المعلم كان ينتقي الأفضل بين الدارسين ويشرف هو بصورة مباشرة على العملية التعليمية ويقوّمها، أما في جامعاتنا فيتحول المعيد مباشرة من طالب إلى عضو هيئة تدريس كامل الصلاحيات دون أي إشراف أو توجيه من الإدارة الأكاديمية، إن تلك الممارسات والتغاضي عن الغياب سوى لمعلمي التعليم العام أو أعضاء هيئة التدريس في الجامعات وتكليف مدرسين بما يسمى بالبديل أو معيد وبصورة غير قانونية يعد خيانة أكاديمية ووطنية كونه يضعف التعليم ويحول مؤسساتنا التعليمية أوكار للفساد المنظم.
4- إن لكل مادة علمية محاورها الأساسية وإطارها المعرفي الوارد في المنهج المدرسي أو دليل الأقسام بالنسبة للجامعات، ولكن مما يؤسف له أن الكثير من طلاب مرحلة التعليم العام لا يحصلون على القدر الضروري من المادة التعليمية نتيجة ضعف كفاءة بعض المعلمين أو إسناد التدريس إلى معلمين من خارج التخصص بما يسمى نظام البديل أو تغطية العجز، يضاف إلى ذلك غياب الوسائل الإيضاحية وعوامل أخرى عديدة، والحال كذلك في جامعاتنا الحكومية حيث تغيب الرقابة الأكاديمية بشكل كلي عن متابعة الإنجاز الأكاديمي لأعضاء هيئة التدريس أو مدى التزامهم بتنفيذ المفردات حسب دليل القسم، لذا تجد بعض أعضاء هيئة التدريس يحضر محاضرتين أو ثلاث خلال الفصل الدراسي ويعد الاختبار للمحتوى الذي قام بتدريسه في تلك المحاضرات، وفعلاً يختبر الطلاب ربما في عُشر أو ربع المقرر المطلوب، وبالتالي تمر العملية هكذا كل سنة في التعليم العام أو العالي ويتخرج الطالب من المرحلة الأساسية أو الثانوية أو الجامعية مفتقداً لأبسط المعارف والمهارات والاتجاهات التي يسعى التعليم لتحقيقها، أن ما سبق يمثل خيانة أكاديمية لأن طلابنا يتخرجون بنصف أو ربع شهادة سوى في التعليم العام أو العالي، ولا نحمل الطلاب مسئولية ضعف مستواهم العلمي، بل تتحمل المسئولية الإدارة الأكاديمية في التعليم العام أو الجامعي لأنها لم تقم بواجبها في متابعة معلمي التعليم العام أو أعضاء هيئة التدريس بالجامعات، بل تركت لكل منهم الحق في إدارة العملية التعليمية حسب هواه.
5- التعيينات المخالفة : على الرغم من وجود احتياجات واضحة في بعض التخصصات على مستوى التعليم العام أو الجامعي إلا أن الإدارة التعليمية والأكاديمية غالباً ما تقدم معلومات مظللة للجهات المعنية عن الاحتياجات الحقيقية، ويتم توجيه الدرجات الوظيفية والأكاديمية المتاحة في الموازنة العامة للدولة لتخصصات أصلاً الميدان مشبّع بها، وذلك حسب قوة النفوذ لبعض طالبي التوظيف، إن إهدار الوظيفية العامة بتلك الطريقة خيانة أكاديمية لأنها تحرم الفصول والقاعات الدراسية من التخصصات الضرورية وتكدس المعلمين وأعضاء هيئة التدريس في تخصصات تعاني من تخمة في منتسبيها، بل قد تمتد تلك المخالفات إلى التستر على الشروط القانونية لشغل تلك الوظيفة كما يحدث في الجامعات الحكومية.
أخيراً هناك كثير من المخالفات التي ترقى إلى مستوى الخيانة الأكاديمية ومن ثم الخيانة الوطنية لا يتسع المجال لذكرها وللقارئ الكريم إسقاط أي انتهاك لقوانين التعليم والوظيفة العامة والقوانين النافذة الأخرى ومطالب التنمية والتطوير في قائمة الخيانة الأكاديمية، فالخائن الأكاديمي هو من يسخّر منصبه من أجل تحقيق مكاسب فردية وبأنانية مفرطة مهدراً حق الوطن في حصول أبناؤه من المتعلمين على الكفايات العلمية الضرورية التي تتناسب مع تخصصاتهم ومستوياتهم الدراسية، وقد بدأ يتضح مدى أثر تلك الخيانة من خلال مئات الألاف من خريجين المراحل المختلفة الذين يفتقدون إلى أبسط المهارات العلمية في مقدمتها مهارات المرحلة الأساسية كالقراءة والكتابة والحساب، ثم مهارات مراحل التعليم الثانوي والجامعي
لذا لا نستغرب عندما نجد خريجاً من قسم اللغة العربية بكلية تربية لا يجيد كتابة سطر واحد خالياً من الأخطاء اللغوية، ولا نستغرب أيضاً عندما نجد معلماً للكيمياء أو الفيزياء يجهل الطريقة الصحيحة لإجراء تجربة كيميائية أو فيزيائية، وتنسحب تلك الإشكالية إلى التخصصات الطبية المسئولة عن حياة البشر والهندسية المسئولة عن تشييد المباني والجسور والطرقات ...إلخ، لذا عندما نسميها خيانة أكاديمية ترقى إلى مستوى الخيانة الوطنية لأن تلك الممارسات تدمر حاضر ومستقبل الأمة، نأمل من القيادات الأكاديمية على مستوى التعليم العام أو العالي أن تدرك أنها تحمل مسئولية وطنية جسيمة وأن الفساد في مؤسسات التعليم على قدر كبير من الخطورة لأنه يكبح كل محاولات التغيير والبناء، ويؤدي إلى مزيد من التخلف الاقتصادي والاجتماعي السياسي ..
ونعتقد بشكل جازم أن هناك ضرورة لإصدار تشريعات تجرم تلك الأفعال وتفرض عقوبات مباشرة لممارسيها تصل حد الفصل من العمل وتعويض الدولة عن الأموال المهدرة عن هذه التجاوزات، فبدون عقوبات رادعة ستستمر هذه الأشكال من الخيانة الأكاديمية مهدرة للمال العام والوظيفة العامة ومدمرة لحاضر ومستقبل اليمن.