مع غروب عام وبزوغ شمس عام جديد، فوجئت الأوساط السياسية اليمنية بمؤشرات تحول عميق في بوصلة القرار الوطني الذي ظل حكرا على موازين القوى وجزءا رئيسا من مثاقفات الصراع السياسي ولم يكن ممكنا إعادة ترشيد هذا القرار طالما ومحاولات تحرير الدولة من الخطف لم تحقق أيا من أهدافها على مدى ثلاثة عقود من الزمن.
وطوال ذلك الوقت تركزت أولويات النظام السابق على إنتاج وضخ الأزمات وتفخيخ الحياة السياسية وتفريخ الأحزاب وخلق الانقسامات المؤثرة على وحدتها الداخلية وتكديس ثروات البلاد في خزائنه الخاصة.
أما خصوماته مع المعرفة فبلغت حدا لا يطاق؛ فالتعليم مصاب بالعطب التام ومؤسسات البحث العلمي تفقد وظيفتها في خدمة المعرفة والحقل الثقافي يئن من سياسات التجويع والترويع وفوق ذلك فإن نمطا واحدا من الأنماط الثقافية يشق طريقه إلى استغفال العقل وعقد المقايضات المؤسفة بين سلطة المال ويقينيات الضمير.
وللأمانة؛ فإن تركة كهذه – متخمة بالأرزاء والتبعيات – ألقت حمولاتها على كاهل الرئيس عبد ربه منصور هادي بالتجاور مع إرهاصات يومية تقذفها مغامرات الطرف المتضرر من مغادرة السلطة بوصفه المستفيد الأول من إفشال المبادرة الخليجية وكبح جماح الرئيس المنتخب وإيصال رسالة غير مباشرة إلى المجتمع مفادها (ليس بالإمكان أفضل مما كان).
بيد أن السؤال الملح.. هل تفلح قوى الإعاقة في شد الرئيس هادي إلى ناحيتها وهل تتمكن من التأثير على خياراته والتشويش على قدراته الذهنية ليجد نفسه تحت رحمة الماضي؟ وهل تقتصر معركته الراهنة على معالجة الإرث القديم من جهة ومواجهة حالات الإقلاق الأمني وضرب المصالح والمنشآت الاقتصادية والخدمية أم نراه يخوض تحدي الإرادة الوطنية ويحدد هو - لا جهة الإعاقة - قسمات وملامح اليمن الجديد.
لدينا طائفة من العناوين الأولية الموحية بقدرة الرجل على الغوص في عبقرية الزمن.. وإذا قدر لهذه العناوين أن تحمل دلالاتها المكتملة في أفق الدولة اليمنية المرتجاة فسيكون المعنى بداية مرحلة تاريخية ذات طبيعة استثنائية، يتجاوز الرئيس بمقتضياتها نطاق المشكلات المختلقة بغرض تحديد سقف اهتماماته ووضعه داخل مربع الماضي.. وإذن فما المؤشرات الدالة على تجاوزه خارطة الحصار إلى ما يريده هو من المستقبل.
هو ذا هادي يقاوم حاجز العزل الماضوي، ويدلف قاعات جامعة صنعاء مستمعا إلى الأكاديميين ومكرما كوكبة من المبدعين الشباب.. ومعنى ذلك أن متخذ القرار قد اختار العلم وجهة أولى لبناء الدولة الحلم.. وقبلها كان الرجل قد وضع مفتاح مكتبه في يد الأستاذ نصر طه مصطفى مدير مكتب رئاسة الجمهورية ذي الخبرة العميقة بمراكز الدراسات الوطنية ونقيب الصحفيين الأسبق، في رسالة كاشفة للمتنورين من أكاديميين ومثقفين ونخب فكرية بدورهم الريادي في مشروع الدولة الحلم.. وفي الأثناء نفسها توقعت مصادر حسنة الاطلاع أن يصدر الرئيس هادي قرارا بقانون يتضمن مهام علمية وسياسية وتنويرية منوطة بمركز دراسات جديد تموله الدولة وترعى مناشطه البحثية والمعرفية.
وبوسعنا إضافة مثال آخر، يتمثل في القرار الرئاسي غير المسبوق بإعادة تشكيل وهيكلة وبناء المؤسستين العسكرية والأمنية بطرق علمية يسهر على بلورتها أكاديميون متخصصون مدنيون وعسكريون لا تحكمهم ولاءات ضيقة ولا ينطلقون من أيدلوجيات حزبية متعصبة.. وبهكذا توجه يكون الرئيس هادي قد أسقط الخطوط الحمراء أمام سلطة العقل وسلطان العلم.
ولئن كانت الخصومة بين السلطة والمعرفة إحدى سمات الماضي فإن متاحات العهد الجديد في اليمن ليست شراكا إلحاقيا يفضي إلى تبعية المعرفة قدر ارتباطه بمسار متشعب يرمي نحو مشروع وطني يختط طريقه إلى المستقبل بأناة وجلد ونفاذ بصيرة.
لكنا مع ما يرف في الحدق من تطلعات وأطوار تفاؤل، تنتابنا الكثير من المخاوف وتتربصنا العديد من علامات الاستفهام؛ إذ ليست ثمة عصا سحرية في متناول الرئيس اليمني لإنجاز حلم الدولة الوطنية المؤسسية خلال فترة زمنية قدرتها المبادرة الخليجية بعيدا عن الواقعية وبمعزل عن شروط التحول التاريخي في بلد بنفس تعقيدات وظروف اليمن.
ولا شك أن قادة الدول العشر المشاركة في إنجاح المبادرة الخليجية يقفون قريبا من مظاهر القلق داخل البيت اليمني، وما أحوجنا لدورهم النبيل لاستشراف المخاطر قبل وقوعها وتقليص الفجوة الفاجعة بين مثالية التصور ومعضلات الواقع.. فمن يحكم اليمن اليوم يعمل في وظيفة رجل إطفاء على فوهة بركان وليس في يده خاتم سليمان ولا كنوز قارون!