كلّما سمعت أو قرأت كلمات المدعو "علي سالم البيض" المُطالبة بالانفصال، أشعر بمدى فداحة الجُرم الذي اقترفته في حق وطني عندما سخّرت قلمي في يومٍ من الأيام للدفاع عن هذا الرجل ولقبته بالوطني مُستنداً على بعض المؤشرات العملية التي اُثبت عدم صحتها مع أول تصريح لهذا الخائن لوطنه وشعبه ووحدته بعد صمت دام 15 عاماً، في المقابل أثبتت تصريحات المدعو "البيض" الأخيرة صحة الأقوال التي كانت تُحذِّر من توجهات هذا الرجل الذي تحمس لإعلان الوحدة ساعياً إلى مغانم شخصية غير وطنية بعكس المبادئ والقيم الوطنية التي كان يصول ويجول بها إعلاميا.
يظهر علينا "البيض" بشكل لا يليق ومُعيب لنا كيمنيين كلَّما يقول إن الرئيس اليمني والرئيس العراقي قد خدعاه عندما جعلاه يوقع اتفاقيات الوحدة، أو عندما يصف الوحدة اليمنية بالفخ.. وبطبيعة الحال، هذه الأقوال التي يُجاهر بها دون خجل في بعض القنوات التلفزيونية والمواقع الالكترونية؛ تحتمل تفسيرين لا ثالث لهما:
الأول: أنه في حال صحة المقولة التي تُشير إلى أن "علي صالح" رئيس اليمن الشمالي في ذلك الحين قد أوقع المدعو "علي البيض" رئيس اليمن الجنوبي وقتها في الفخ؛ فهذا يعني بأن الأخير ساذج وفاشل سياسياً (العجيب اليوم بأن من يؤمنون بهذا التفسير ويعتبرون الوحدة اليمنية نكسة لجنوب اليمن؛ يجعلون من "البيض" زعيماً لهم وهم ينعتونه بالمغفل في ذات الوقت)..!
ونحن إذ لا نؤيد هذا التفسير ونعتبره مُجافياً للحقيقة، لأن جنوب الوطن كان حينها -ولا زال- يحمل عدداً كبيراً من الكوادر السياسية والعسكرية الفائقة الحكمة والدهاء والفطنة والذين شاركوا في صنع الوحدة، فإذا كان "البيض" أحمق، فالآخرون ليسوا بهذا الوصف الذي يصف هو نفسه به بشكل غير مُباشر، كما أن إعلان اتفاقية استعادة الوحدة اليمنية في مايو 1990م لم يأت في ليلةٍ وضُحاها، بل كانت هناك مراحل وعدد من الاتفاقيات المحلية والدولية، كان هدفها التمهيد إلى الوحدة النهائية والتي كان يوقعها عدد من الزعماء والقادة من جنوب اليمن وليس "البيض" فقط، فالوحدة كانت هدفاً من أهداف الشعب اليمني المتمثل بالثوّار والمُثقفين الذين صنعوا سبتمبر وأكتوبر وبالتالي هي عبارة عن ثمرة لشجرة قام الشعب اليمني شمالاً وجنوباً بزراعتها منذ القِدم لرأب الصدع التاريخي الذي صنعه الاستعمار والتخلف، ثم جاء صالح والبيض في 22مايو1990م وقطفا هذه الثمرة لا أكثر، فكيف لها أن تكون خدعة وقع فيها "البيض" وجنوب الوطن كما يقولون؟
أما التفسير الثاني الذي نؤيده ونعضده بالأدلة هو أن "البيض" كاذب وبلا مبادئ كما كنا نعتقد، فهو لم يدخل الوحدة لأنه يعتبر بأن (وحدة شطري اليمن قدر ومصير) كما جاء نصاً في اتفاقية صنعاء والذي وقعها "البيض" و"صالح" يوم 1988/5/4م أيضاً في اتفاقية عدن يوم 1989/10/3م؛ وإنما كان " البيض" يحمل أهدافاً ودوافع غير وطنية أولها: أنه كان يعتقد بأن النظام الاشتراكي قادر على ابتلاع شمال اليمن بعد الوحدة كون الشطر اليمني الشمالي ضعيف عسكرياً، مع امتلاك الشطر الجنوبي اليمني ترسانة عسكرية هي الأقوى على مستوى شبه الجزيرة العربية.. أما الدافع -الثاني والأهم- الذي أدى إلى التسريع بإعلان الوحدة من قِبل" البيض" كما أشار المؤرخون العرب: هو أن الوحدة حينها كانت طوق نجاة للحزب الاشتراكي وجنوب اليمن بشكلٍ عام بعد الفشل السياسي والاقتصادي الذريع في ذلك الجزء من الوطن.
يقول الكاتب السياسي العراقي"علي الصرّاف" في آخر أربعة أسطر من كتابه (اليمن الجنوبي–الحياة السياسية من الاستعمار إلى الوحدة) والذي صدر سنة 1992م التالي: "باختصار، لم يعد اليمن الجنوبي قادراً على مواصلة الحياة ككيان مُستقل...تلك النتيجة التي تأخر اكتشافها أكثر من عشرين عاماً. وإذ لم يبق إلا باب النداء اليمني مفتوحاً فقد أُعلنت الوحدة قبل موعدها المُقرر بسته أشهر، لتوفر على الجنوبيين عناءً كانوا في غنى عنه أصلاً" ص364.
لم يأت قول الكاتب العراقي آنفاً من فراغ، فقبل إعلان الوحدة مُباشرةً وصلت القيادة اليمنية الجنوبية إلى مرحلة إحباط بعد مرور أكثر من عشرين عاماً على الحكم، فهي لم تُحقق للشعب الجنوبي اليمني غير الانتكاسات والحروب الدامية المُتتالية التي أدت بدورها إلى أزمة اقتصادية وسياسية حادة.
فعلى الصعيد الاقتصادي.. سجلت خطط التنمية في جنوب اليمن فشلاً مُتتابعاً في تحقيق التوازن الاقتصادي بين الموارد المتاحة والاحتياجات المطلوبة، وكما جاء في (الموسوعة البريطانية ص3069)، فقد سجل الميزان التجاري في جنوب اليمن عجزاً سنوياً يتراوح بين 515 و 793 مليون دولار، وذلك ما بين السنوات 1984و 1988م فقط.. ويعد هذا العجز كبيراً جداً بالنسبة للإمكانات في الشطر الجنوبي حينها، كما أن المديونية الخارجية قُدِّرت حينها بما يُقارب 2.09 مليار دولار (هذا الرقم ليس له علاقة بالمُساعدات التي كان يتلقاها الشطر من بعض الدول الإقليمية والدولية المهيمنة).
أمَّا على النطاق السياسي الداخلي فكانت تبعات وتأثيرات حرب يناير 1986م لا تزال قائمةً، وكان الوضع مُرشّحا للانفجار في أية لحظة.. أما خارجياً فقد أدت جملة من العوامل الداخلية -كان أهمها جَرب الحُروب الداخلية الدامية وعدم الاستجابة للنداءات الدولية إضافةً إلى النظام الاشتراكي المُتبع- إلى إدخال جنوب اليمن في حالة من العزلة الإقليمية الشديدة، حتى أن جنوب اليمن في تلك الفترة لم يدع بصورة مُباشرة إلى عضوية مجلس التعاون العربي الذي تم تأسيسه سنة 1989م والذي ضم( اليمن الشمالي والأردن ومصر والعراق).. وقد أحاط هذا الجدار السياسي العازل على جنوب الوطن حينها من كل جهة باستثناء البوابة اليمنية الشمالية التي بقيت مفتوحةً أمام إخوانهم في جنوب اليمن بمصراعيها، وعلى سبيل المثال لا الحصر، نزوح الآلاف من أعضاء الحزب الاشتراكي من أصل34284 إجمالي عدد أعضاء الحزب الاشتراكي في الجنوب حتى عام 1985م؛ إلى المناطق الشمالية وذلك إبان أحداث يناير 1986م بعد رفض بعض الدول الإقليمية استيعابهم..!
لم أذكر هذه المعلومات أعلاه من باب تقبيح جزء من وطننا الغالي علينا جميعاً، ولكنها دلائل وحقائق تاريخية تُثبت أقوال المؤرخين الذين أشاروا إلى أن الوحدة اليمنية كانت عبارة عن طوق نجاة لليمن وبالتحديد اليمن الجنوبي، وليس كما يقول بعض الكاذبين اليوم بأن الوحدة اليمنية كانت خدعه ومؤامرة، أو كما يهرطق المدعو "علي سالم البيض" عبر بعض وسائل الإعلام..!!
وتأسيساً على ما سبق .. إما أن يكون"البيض" ساذجاً أو كما يقول أصحابه (الزعيم المُغفَّل)، أو أنه كاذب وبلا مبادئ وطنية نزيهة، وفي كلتا الحالتين هو لا يملك الأهلية التي تُخوله أن يتحدث بأسماء أبناء المُحافظات الجنوبية اليمنية الشُرفاء.