مع انقضاء سنة من المرحلة الانتقالية يصعب الاطمئنان والثقة في تحديد الشوط الذي قطعه اليمنيون في مسار التسوية السياسية، أهو نصف المسافة أو أقل منها أو أكثر، وإن كان الأرجح فيما أقدر أننا اجتزنا الطريق الوعر.
كانت اللحظة الفارقة في 21فبراير 2012م، ففي ذلك اليوم انبثق شعاع الأمل من بركة الدم عندما كتبت الثورة فاتحة انتصاراتها بإزاحة رمز الاستبداد وعنوان التخلف، وإن كانت إزاحة العنوان من رأس الصفحة لم تمثل طمساً كاملاً للخطيئة التاريخية.. فقد بقي شيءً من ظله الكثيف على الهوامش، وأسوأ منه فإن التخلص من العنوان ولو بالمحو الكامل دون تبييض الصفحة يستتبعه بالضرورة تنقيح الجمال والعبارات القديمة شطباً وإضافة وتعديلاً ،وذلك ماكان، وأسفر عن نص مضطرب ينقصه وضوح المعنى وبلاغة العبارة وتلك فيما أجزم مهمة اليمنيين خلال المتبقي من المرحلة الانتقالية، يعول في جزئها الأكبر على الحوار الوطني.
مهما يكن يبدو ماحدث حتى الآن شيئاً حسناً قد يستدعي بعض التفصيل لكي نستبصر وننظر إلى المستقبل وفيه.
وأول ما يستوجب النظر أنه منذ تلك اللحظة الفارقة لم يغادر الرئيس السابق الحياة السياسية ، فانسحب من قمة السلطة وانزوى عند الأكتاف، وأخذ من موقعه الجديد يمارس دوراً سياسياً سيئاً وشديد التأثير على العملية السياسية، وقد مارس هذا الدور من منافذ وأبواب عديدة، فقد احتفظ بمصادر تأثير من السخف الاستهانة بها.. وقد كان عارفاً بما يملك مدركاً لما يستطيع، فأعلن مرات عدة أنه إذا خرج من السلطة فسوف يعلم خصومه كيف تكون المعارضة، والمعنى أنه سيمثل مصدر إزعاج لمن يخلفه في الحكم.
الواقع أنه احتفظ بسيطرة شبه كلية على المؤتمر الشعبي بطاقاته البشرية وإمكانياته المادية.. ولعله في هذا استفاد من حرص الرئيس الجديد على مبدأ الحياد بين القوى السياسية والاجتماعية المختلفة من منطلق احترام الاجماع الوطني والتوافق السياسي كما تجلى في 21فبراير.
لاخلاف على أن المؤتمر تنظيم فضفاض لاتحركه عقيدة خلاقة للطاقات النضالية، لكنه رغم ذلك يمتلك غريزة البقاء التي تغذيها شبكة واسعة من المصالح.
وعلى حين أنه لايحصل اشتراكات من أعضائه فقد أقام امبراطورية مالية هائلة بناها من موارد الدولة ومن إتاوات تفرض على رجال الأعمال وتشكل في حقيقة الأمر أثماناً لصكوك قابلة في أسواق الصفقات باهظة الأرباح.
فوق هذا استمرت التدفقات المالية إلى خزينته المفتوحة من حكومات وجهات خارجية ومن مؤسسات وهيئات حكومية محلية ،وقد فطن الرئيس الجديد لذلك وعمل على إغلاق الحنفيات الضاخة بعزل قيادات بنوك ومؤسسات ذات استثمارات ضخمة.
استثمر الرئيس السابق المال الوفير المتاح له ببناء تحالفات غير معلنة مع تنظيمات إرهابية وجماعات قبلية متعطشة للثروة والسلاح واستخدمها لإثارة القلاقل والمشاكل.
ومن وحي خيرته الطويلة في الحكم لم يغفل أهمية الإعلام فأسس جهازاً متكاملاً يضم صحفاً ووكالة أنباء ومحطات إذاعة وتلفزيوناً وظيفتها الأساسية إذكاء الفتن وتأجيج الاضطرابات.
وهناك آخرون صنعوا من نفس العجينة وشاركوه،ولم يزالوا، تلويث البيئة وتغييم الأجواء، إنهم شركاؤه الذين اختصموا معه على الغنائم حتى واتتهم الفرصة فتعلقوا بقطار الثورة ورفعوا بيارقها.
هؤلاء أنشأوا ميليشياتهم وإعلامهم الخاص وجندوا الأطفال وسلحوا المرتزقة، وتباروا مع حليفهم بالأمس عدو اليوم في القتل والتخريب.
مع هذا وبالرغم منه لم ينطفئ بريق اللحظة الفارقة، والفضل يعود ليقظة الشعب في المقام الأول ولمهارة فائقة أظهرها الرئيس الجديد في إدارة الأزمات، فاستطاع بالهدوء والحكمة أن يعبر بالبلاد فوق النار والشوك ويضعها على عتبة الحوار الوطني.
في الداخل أدار الرئيس عبد ربه منصور هادي التوازنات بكفاءة عالية وأمسك بكلتا يديه بالتناقضات الاجتماعية والسياسية، فنجح في منع انفجار الصراع بين الأحزاب والقوى المتناحرة.
وبنفس المستوى من المهارة والكفاءة خطا في الطريق نحو إعادة بناء القوات المسلحة وجهاز الشرطة على أسس وطنية، وتمكن من نزع الصاعق من اللغم الموقوت في مخزن البارود ،فحمى القوات من حريق كاد يشتعل ويمتد بنيرانه لإضرام حرب أهلية طاحنة.
وفي الداخل اجتهد ولايزال من أجل إحكام السيطرة على الأوضاع الأمنية وخاض حرباً باسلة ضد الإرهاب وعلى هذه الجبهة لم يلبس قميص التقوى الوطنية فيدعي مثل سلفه - وكما يفعل كبار المسئولين اليوم - أن الطائرات الأمريكية تقتل عناصر القاعدة بدون علم منه، ولاهو يفتح سماوات بلاده والأرض للأمريكيين ثم يدعم القاعدة من تحت الطاولة لإبتزاز من يسميهم شركاءه في الحرب على الإرهاب.
ومع العالم الخارجي أدار الرئيس سياسة خارجية نشطة لإقناع المجتمع الدولي بأن وحدة واستقرار اليمن ضمان أكيد للاستقرار في المنطقة وعامل معهم في تهدئة العواصف التي تجتاح العالم.
وليس من فراغ تأكيد مجلس الأمن الدولي في بيانه الأخير إلتزامه«بوحدة وسيادة واستقلال وسلامة الأراضي اليمنية».
كما أنه أمر ذو مغزى أن البيان وضع علي سالم البيض بنفس الدرجة من المسئولية مع علي عبدالله صالح في استبسالهما من أجل إعاقة التسوية السياسية.
يتكامل مع هذا اعتبار الجنوب - طبقاً لبيان المجلس- منطقة ينبغي تمثيلها في الحوار مثل المناطق اليمنية الأخرى.
ليس في القول مبالغة إذاً أن الرئيس هادي حقق في سنة واحدة إنجازات كبيرة، والوصف هنا مبني على ما في الواقع من تعقيدات وصعوبات.
وحين ينسب الإنجاز للرئيس ومعه الشعب ، فلأن الحكومة مبلية بالعجز والعقم، مصابة بقصر النظر وعمى الألوان.
وعندي – من غير تحامل أو سوء ظن – أنها مسلمة أمرها لتيار غدار يجرفها خارج مجرى العمل الوطني، والمؤكد أنه سوف يهوي بها إلى قاع رجعي سحيق.
وعندي أيضاً أنها بالاستهوان بالمهمة الوطنية المناطة بها وبالاستسلام للرغبات والمنافع الصغيرة تشكل العائق الكابح لتطلعات الشعب وإرادة التغيير.
ولقد كان مطباً كبيراً تشكيل الحكومة قبل انتخاب الرئيس، ففي ذلك كتب عليه أن يمارس وظيفته القيادية بجهاز تنفيذي لم يكن له رأي في اختياره وهم الآن عبء عليه ثقيل يحمل خطاياهم ولايتحملون معه مسئوليته.
الآن ونحن على مرمى أربعة أسابيع من الحوار الوطني تتراءى في الأفق لحظة مفصلية ثانية، وأمامها تبرز المخاوف بالمقدار الذي يطل فيه الرجاء.. هناك مخاوف حقيقية من أن يتحول الحوار إلى دكاكين صراع تسعى فيه الأطراف إلى تعظيم المكاسب والأرباح السياسية.
وهناك رجاء بأن تعلو المصلحة الوطنية فوق الرغبات والأهواء وفوق الشهوات والمطامع.. الرجاء في أن يبرهن المتحاورون على أنهم رجال اليمن وفرسان الوطنية.
وإذا تحقق الرجاء فقد أرى أن يضيف مؤتمر الحوار الوطني إلى جدول أعماله موضوعين:
الأول: اقتراح إنشاء مجلس أمن قومي يتولى بصورة مستمرة، دراسة مصادر التهديد لأمننا الوطني ويضع استراتيجية دائمة ومرنة لمواجهتها.
ويتطلب هذا إعادة النظر في أجهزة الاستخبارات من حيث التنظيم والأهداف والمسئوليات دون أن ننسى أن مفهوم الأمن القومي أوسع من أن تتصدى له المخابرات والقوات المسلحة، فهو يشمل السياسة بما يعنيه من قدرة النظام السياسي على نيل الرضا العام بالديمقراطية والمساواة وضمان الحقوق والحريات ويشمل الاقتصاد من حيث التنمية المتوازنة وتحقيق الكفاءة والعدل، فضلاً عن شموله الغذاء والبيئة وسواهما.
الأمر الثاني: التفكير الجاد بنقل العاصمة إلى المكلا، فصنعاء مهددة بالجفاف، معلقة فوق الجبال ومحاصرة بالقبائل وبعيدة عن شريان التجارة الدولية.
بالمقابل تتمتع المكلا بمزايا استراتيجية عديدة ،فهي واقعة على الشاطئ قريبة من خطوط النقل البحري، قابلة للتخطيط العمراني، وبإمكانية التوسع في خطوط النقل البري والسكك الحديدية،ومجتمع حضرموت مدني وفيها تتوفر المياه الجوفية وقبل ذلك وبعده فإن وجود العاصمة في حضرموت يضعف أي دعوة للإنفصال والأصح أنه يعطلها.