ذات أمسية من أماسي القاهرة مطلع الألفية الثالثة، كنت زائراً للدكتور مصطفى محمود المفكر والعالم المصري الشهير، في شقته القريبة من مسجد مصطفى محمود، المسجد الذي أشرف هو على بنائه وسُمّي باسمه منذ سنوات بعيدة. كانت الشقة الصغيرة شديدة البياض، والنقاء، والصفاء. فلا أثاث على أرضيتها، أو على رخامها الأبيض، ولا لوحات على الجدران البيضاء، وحتى المجلس كان كأنه ندف ثلج ملقاة على الأرض. وكان الدكتور مصطفى وحيداً وسط هذا البياض النادر بشعره الكث شديد البياض أيضاً! وعندما قام كي يأتي بشاي أو قهوة رجوته ألّا يفعل.. وفي الواقع أني خشيت أن تنزلق قدمه على الرخام الأملس! وعندما جلس أمامي فاجَأني بقوله: "إنتو شعب ذكي جداً.. بس إيه حكاية الخطف اللي ماشية اليومين دول عندكم؟!"، وارتبكتُ لوهلةٍ، فلم أكن أتوقع تساؤله المفاجئ! وكنت أظن أنني سأكون المبادر بالأسئلة حول حياته وتجربته. ولعلّه أدرك ذلك فأضاف: "الشعب اليمني من أذكى الشعوب العربية، وأنا أعرف فلان وفلان وفلان! بس مش عارف ليه أحواله كده!".
حاولت أن أشرح بصعوبةٍ بالغة عن مراكز قوى في السلطة تفعل ذلك، وتستغل جهل الناس وفقرهم في إطار ما تعتقده صراعاً سياسياً من أجل البقاء! والأرجح أن الدكتور مصطفى لم يفهم تماماً ما أردت! فلم يتخيل أن دولةً في هذا العالم يمكن أن تقوم مراكز قوى في رأسها أو في أطرافها بهذا الفعل، أو حتى تغضّ الطرف عن مرتكبي هذا الجرم الشنيع!
رحم الله الدكتور مصطفى محمود.. يا ترى، ما ذا كان سيقول لو كان حيّاً وبعد ما يقرب من خمسة عشر عاماً حين يعلم أن خاطفي السياح زمان تطوروا إلى محاولة خطف بلادٍ بأكملها! عن طريق الضرب المستمر لأنابيب النفط وأعمدة الكهرباء! أي قلب الدولة وعينيها! فلا يكاد يمرّ أسبوع دون ضرب إحداهما أو كليهما! وأن الدولة ما تزال طيبة جداً، لا تعاقب أحداً من هؤلاء المخربين المجرمين! دولة طيبة وحنونة على هؤلاء، بينما يموت الفنانون والشعراء فيها جوعاً!
بعد ثلاث سنوات تقريباً من لقائي بالدكتور مصطفى محمود، كنت ضيف غداء لدى وزير الثقافة المصري الفنان فاروق حسني، وقد تفضّل فأقامه في حديقة متحف أم كلثوم على شط النيل الساحر، وكان ضمن المدعوين الكاتب المرحوم أنيس منصور الذي فاجأني أيضاً بتساؤله:" الشعب اليمني شعب ذكي جداً! " وعندما سمعت العبارة استعذتُ بالله من هذه الصفة! لخشيتي مما يمكن أن يقول بعدها! لكن الرجل أسهب في ذكرياته عن القاضي الزبيري، والأستاذ النعمان، وزيارته لليمن، وشربه لأحلى شاي في حياته بين الجنود المصريين في جبال اليمن.. وفجأةً ختم حديثه بالتساؤل المحزن:" الشعب اليمني من أذكى الشعوب! لكنه دائماً وللأسف ضحية لحكّامه والصراع بين قبائله".
وتنفست الصعداء! فقد تساءل وأجاب في نفس الوقت.. ونِعْمَ الإجابة!
شعبٌ ذكي.. ولكن!.. أتأملُ منجزات الشعب اليمني في مُدنِهِ القديمة، وحصونه، وقُراه، ومدرجاته، وسدوده، وحتى في أدواره العربية القديمة العظيمة فأجد الشعب حاضراً.. أبحثُ عن الدولة فلا أجد إلا النزر اليسير! أرجوكم.. تأملوا.. كل حضارات الدنيا كانت الدولة فيها هي الرائدة والشعب من ورائها. هنا العكس، الشعب في المقدمة.. والنخب الخائبة تاريخياً وعلى رأسها معظم الأنظمة المتعاقبة ورؤساء العشائر والقبائل، والمناطق، والمذاهب وإن تحزّبت، لا هَمَّ لها إلا أن تعيق أحلام الشعب بالتجهيل، والظلام.. وأن تستمر بإثارة الصراع لمجرّد البقاء!
إنني أثق ثقةً كاملةً وبلا حدود في عظمة الشعب اليمني، وقدرته على تجاوز المحن والأزمات لمعرفتي بهذا الشعب في جباله، ووديانه، وسهوله، وسواحله. أعرف صبره، وذكاءه، أخلاقه، وكرم روحه، كِفاحه وجلَدَهُ، تسامحه، واعتزازه بنفسه.. أعرفُ نُبلَ فقره، وأريحية سجاياه.. حتى بداوة شعابه، وتوحّش ذراه، في جبال حجّة وردفان وحراز، ويافع، إنها تجدِّد ما اهترأ من أرواحنا، وتعيد ما تلاشى من عزائمنا.. الإنسان في هذه البلاد هو الثروة الحقيقية، لو أن ثمّة إدارة، أو ثمّة ضميراً، أو ثمّة من يسمع أو يعقل!